نظرة في القاع الفلسطيني

26 مارس 2018
+ الخط -
أما وأن الحالة الفلسطينية رثّةٌ وركيكةٌ فهذا مشهورٌ. ولكن ما زالت غيرَ معلومةٍ بالضبط مقاديرُ الرثاثةِ والركاكةِ هاتين. وفي كل واقعةٍ تستجد، يتبدّى أن الجري الفلسطيني القهقرى يمضي إلى مسافاتٍ أبعد فأبعد، وإلى قاعٍ أوطى فأوطى. وهذه حادثة محاولة تفجير موكبٍ لرئيس الحكومة، رامي الحمد الله، ورئيس الاستخبارات العامة، ماجد فرج، تدلّ، للمرة الألف على الأقل، على أن من ينطقون باسم الفلسطينيين ممثلين لهم، وعنهم، لا يستحقون أبدا موقعهم هذا، في أي ضفةٍ كانوا، أقاموا في رام الله أو في غزة، فاوضوا أو حاربوا. 

أول ما على صاحب السلطة والحكم والقرار، في محكّات التوتير والتأزيم، أن يستخدم العقل، أن يوليه المنزلة الأولى، أن يقدّمه على أي اعتبار. ولكنّ ما تتابع من كلام، وما توالى من وقائع، بعد الحادثة، يوضحان أن ثمّة انتحارا مريعا للعقل يحدث في الحالة الفلسطينية. .. تُشهد في كل العالم عملياتُ تفجيرٍ ومحاولاتُ اغتيال شخصياتٍ ثقيلةٍ أو خفيفة. هذا عاديٌّ جدا، وإنْ لا يجوز الاستسلام لعاديته. وإذا كانت هذه الأحداث تفاجئنا، وتصيبنا بالجزع، فإن أهل القرار لا يجوز أن يكونوا كما العامّة، يُفترض بهم أن يحتكموا إلى العقل ولا شيء غيره. ومن ذلك ليس كل ما يُعرف يجب أن يقال، وليس اتهام أيٍّ كان في هذه الجريمة أو تلك من وظائف المسؤولين الحكوميين، وليس هناك ما هو أوْلى من إبعاد الفتنة، والنأي عنها. ولذلك حذّر الملك الحسين من أي مسٍّ بأي فلسطيني، ساعة بلغه أن فلسطينيين قتلوا وصفي التل في القاهرة، أياما بعد جائحة أيلول الأسود في 1970.
بعد أقلّ من نصف ساعة من واقعة التفجير الذي استهدف الحمد الله وماجد فرج، لدى عبورهما إلى مدخل قطاع غزة، قادميْن من رام الله، توالت اتهاماتٌ من مسؤولين فتحاويين حركة حماس باقتراف الفعلة الشائنة. وكان متوقعا أن يطلّ الرئيس محمود عباس، ويعلن أن تحقيقا مهنيا سيتم في الحادثة، وإن عقوباتٍ سيقرّرها القضاء بشأن من يثبت ارتكابهم الجريمة. كان هذا هو المرتقب أن يُسمع من رئيس دولة فلسطين، غير أنه لم يكتف بتصديق من وضعوا في أفهامه إنها "حماس" فعلتها، بل أذاع هذا الاتهام، من دون تحرّزٍ أو اعتبارٍ لإجراءاتٍ ينبغي أن تسارع السلطة الوطنية الفلسطينية التي يرأسها إلى مباشرتها، أهمها تحقيقٌ مهني مسؤول، يصل إلى اتهامٍ واضحٍ بقرائن وشواهد، يأخذ المتهمين إلى قضاءٍ مختص. لم يكترث الرئيس بشيء من هذا.
في المقابل، راح قياديون في "حماس" يخوضون في الموضوع، بإشاعة جرعات تشويقٍ جذّابة لمتابعة فيلم بوليسي، وحتى عندما قالوا إن شخصا اسمه أنس أبو خوصة هو من حاول اغتيال الحمد الله وماجد فرج، كان نصيبه القتل في اشتباكٍ قضى فيه ثلاثةٌ غيره، ما دلّ على مقادير "المهنية!" العالية لدى أجهزة "حماس" المنوط بها أمن غزة، ومقادير "كفاءة!" عناصرها المكلفين بهذا، وقد انتقل اثنان منهم إلى رحمة الله في الاشتباك. أما الحركة نفسها، وهي الحاكمة في قطاع غزة، فلم تبدُ فقط حريصةً على تبرئة نفسها من تدبير التفجير وتنفيذه، وإنما أيضا، حريصة على تأكيد تورّط السلطة في رام الله في الجريمة. وها نحن، بعد ثلاثة عشر يوما على الحادثة، نعبر إلى هذا المقطع في فصول القصة المتدحرجة، فيعدنا، في غضونه، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وزميله يحيى السنوار، بـ "تفاصيل وحقائق مذهلة" متعلقةٍ بالتفجير، وسيتم في عرضها تقديم الدليل عليها "بالصوت والصورة". ويقول موسى أبو مرزوق إن "خيوط المؤامرة الحقيرة اتضحت"، فيما يوضح فوزي برهوم أن تكثيف مسؤولين في السلطة اتهامهم "حماس" يؤكّد تورّطهم المباشر في التفجير. وذلك كله في غياب أي قرائن على صدقيةٍ هنا، وشفافيةٍ هناك، وطبعا من دون اكتراثٍ بأن ثمّة حكومة وفاق، وثمّة وزارات ومؤسسات مختصة.
بأداءٍ من هذا النوع، تقدّم سلطتا رام الله وغزة نفسيهما لشعبهما، مع رطاناتٍ عن حرصٍ على "كشف الحقيقة"، وعلى تحقيق المصالحة، وعلى "درء الفتنة". وفي الأثناء، يتوسّط عبد الفتاح السيسي لدى عباس، من أجل أن لا يُنزل العقوبات التي لوّح بها على قطاع غزة. ونقرأ في الصحافة العبرية أن دوائر أمنية واستخبارية إسرائيلية توصي بإمداد القطاع بما يلزم من حاجيات، وعدم تشجيع عباس على ما يريد أن يفعله بالقطاع، لأن مزيداً من تأزّم الأوضاع هناك ليس في مصلحة إسرائيل.. تُرى، بعد هذا، هل من يعرف أي منتهىً للقاع الواطي الذي يقيم فيه الحال الفلسطيني؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.