نساء مفيدة التلاتلي
النساء كثيراتٌ في الأفلام الثلاثة للمخرجة التونسية، الراحلة قبل أيام عن 73 عاما، مفيدة التلاتلي. ولمّا كانت أفلاما منشغلةً بالمرأة، أو على الأصح بالمرأة ذاتا وجسدا وفردا، ذاع في كتاباتٍ متعجّلةٍ أنها تُدرَج في السينما النسائية، وهذا صحيحٌ جزئيا، لكنه ليس كذلك إذا أخذنا بالتصوّر الذي يرى السينما هذه معنيةً بقضايا المرأة، الاجتماعية والسياسية، في سياق المسألة الثقافية العامة (الحديث هنا عربيا). ولذلك الأدق أن يُقال إن "صمت القصور" (1994) و"موسم الرجال" (2000) و"نادية وسارة" (2004) أفلامٌ في "الأنثوية" تخصيصا، أكثر من صفتها تلك التي تم ارتجالها. .. هل نجحت التلاتلي جماليا (سينمائيا بالضرورة) في التعبير عمّا أرادته بشأن مغالبة المرأة في علاقتها بجسدها؟ لن تذهب الإجابة إلى تميّز خاص صنعته الراحلة في هذا، ذلك أن شيئا من الملل يصيب مُشاهد الفيلمين الأخيريْن، وإنْ يصحّ القول إن موضوعة الضجر أساسية في "موسم الرجال"، وإن انفراد المرأة بذاتها وهي تحدّق في حالها، أنثى لها شهوتها، وقد تقدّمت في السن، شأنٌ مركزي في "نادية وسارة"، الفيلم الذي كتبته التلاتلي نفسها، وامتنعت لجنة الدعم السينمائي في تونس، عن دعمه، بسبب "السيناريو غير المحكم". وهذا تبريرٌ ربما كان لدفع حرجٍ محتملٍ من دعم مادي لفيلمٍ عن امرأة في سن اليأس (أداء الفلسطينية هيام عباس) وتغار من ابنتها المراهقة (أداء درّة رزق)، فتلوذ إلى ذاتها، إلى فردانيتها، وتدخل قاعة سينما لتشاهد الفيلم المصري الأكثر جرأةً في مشاهده الحميمية، "سيدة الأقمار السوداء" (1971)، وفيه امرأة يائسة تطفئ شهوتها مع فتىً يتوفر لها.
لنقل إن "نادية وسارة" كان جريئا في موضوعته، الأنثوية (النسائية تاليا؟)، وقد عدّ فيلما تلفزيونيا (بالفرنسية)، إلا أنه لا يتوفّر على قيمةٍ لافتة، بناءً ومشهديةً وإيقاعا. ولعل هذا ما جعل الاكتراث به ضعيفا. كان سابقُه "موسم الرجال" أكثرَ نضجا واكتمالا (هل نقول إقناعا أيضا؟). نهض على فكرة حاجة المرأة، باعتبارها أنثى، إلى تلبية مطاليبها الجسدية، فضلا عن محموله التقّدمي، وهذا تعبيرٌ غير متزيّد هنا، فالفيلم يُختتم بمشاهد إحدى بطلاته وهي تحاول الانعتاق من قيود اجتماعية، عدا عن أنه، في محتواه العام، رهيفٌ في مقاربته انتظار نساءٍ متزوجاتٍ أزواجَهن، لإشباع رغباتهن، يعْملن في منزل العائلة في صناعة السجاجيد والتراثيات، شهورا طويلة، فيما أزواجهن في أعمالهم في العاصمة. يعودون شهرا في العام، وقبيل وصولهم، تتزيّن الزوجات، ويهيئن أنفسهن لاستحقاق الأنوثة فيهن. احتاج الفيلم (بالفرنسية أيضا) إلى شيءٍ من الحرارة، كان في وسع الموسيقى التصويرية، مثلا، أن تسعفه بها. وما يمكن اعتباره جمالا فيه ذلك التوازي الذي أقامه بين فضائين: المغلق، البيت الحريمي المثقل بضغوط تقاليد وأعرافٍ حادّة، وبأنفاس النساء المتروكات، يُزجين الأوقات في انتظار الأزواج، وفي العمل اليومي، وفي الثرثرات (زوجات عدة إخوة في منزل واحد)، وفي مكابدة اشتياقات أنوثتهن، حيث الفراغ العاطفي والجوع الجنسي. ولا رجل إلا والد الأزواج، الشيخ بارد الأحاسيس، والقاسي والعاجز معا، والبادي رقيبا، كما زوجته، الحماة أم الأزواج، المتجبّرة، الفظّة. والفضاء المفتوح، حيث البحر والحقل والسوق، والهواء السارح في خارج المنزل في مدينة جربة.
كأن مفيدة التلاتلي كانت، في أفلامها الثلاثة، ترجع إلى الخلف واحدا بعد الآخر، فإذا كان "موسم الرجال" أكثر إتقانا من تاليه "نادية وسارة"، فإن الأول "صمت القصور" يتقدّم عليه، سيما على صعيد تماسك النص (كتبته بمشاركة نوري بوزيد)، وقوة الرمزيات والإيحاءات فيه، فضلا عن حسّ التجريب الظاهر فيه. ولعل هذا كله ما جعله، في تصنيفاتٍ ليست قليلة، يُحسب "تحفة"، ومن أهم الأفلام العربية. .. أن تكون البطلة مغنية، مع الشحنة السياسية، والناقدة، فيه، وأيضا إطلالته على مقطعٍ من تونس عشية الاستقلال، عوامل ساعدت في استقبال الفيلم باحتفاء مستحقّ. .. التذكّر والصمت والقلق، وارتباك الجسد، وحيرة الأنثى الحامل من علاقة لها حكاية، العبد والسيد في صلة الخادمة بسيد القصر، حيا في زمن مضى، وميتا في زمن راهن. .. بإيجاز، هي مقاطع من أنوثةٍ في فضاءٍ أوسع من الضيق الذي انحشرت فيه نساء الفيلمين التاليين، وقد أنجزت مفيدة التلاتلي ثلاثتها، فيما أجادت أكثر، في مونتاجها أكثر من عشرين فيلما، وهذا شأنٌ آخر.