نساء غزّة و"أسبوع الآلام"
في التقليد المسيحي، "أسبوع الآلام" هو الأسبوع الأخير في حياة السيد المسيح. خلاله، سوف يشي به يهوذا، فيُقبَض عليه ويُساق إلى المحاكمة، يُحمّل صليبُه على طريق الجلجلة، حيث يتمّ صلبه ويسلم الروح فوق الصليب...
في المأساة الفلسطينية، "أسبوع الآلام هذا" لا يني يتكرّر ويُعاد منذ عقود، هو شعبٌ بأكمله يُصلب من دون محاكمةٍ، ولذنبٍ لم يرتكبه، يُذلّ، يُهان، يُقمع، يُحاصر، يُعذّب، ويُقتل. لا فرق في نظر جلّاديه بين طفلٍ وبالغ، مدنيٍّ ومسلّح، امرأةٍ أو رجل، شابٍّ أو عجوز. آلام مبرّحة لا شيء يبرّرها، آلام "مجانية" تغدَق بسخاءٍ بالغ على الفلسطينيين بحجّة ذرائع واهية، ملفّقة، كاذبة، فيما الحشود على أنواعها تتفرّج مهلّلة، مصفّقة، كلّما تعمّقت الجراح أو انفجرت الدماء. وكما لو أنها أمام مشهد سينمائي، تراها تزداد حماسةً لمرأى الدّماء وتطالب بالمزيد...
في مقابلة أجرتها الزميلة سمر أبو خليل، على قناة الجديد، مع الصحافي ورئيس تحرير صحيفة الأخبار اللبنانية إبراهيم الأمين (حلقة الحدث، 5/11/2023)، ثمّة ما كان شبيها بمشهد الفُرجة على عملية صلب. فما قاله الأمين حرفيا: "هناك الآن 50 ألف امرأة فلسطينية حامل، وسوف يُنجبن 5500 طفل خلال شهر. يعني، خلال شهرين، انشالله يعوّض الفلسطينيون كل الشهداء الذين راحوا، وهذا ليس من باب استسهال الأمر"! فوافقته السيدة سمر طبعا، واستمرّ الحوار وكأنّ شيئا لم يُقل...
كثُر الذين صدمهم هذا القول، وأنا منهم، وقد بدا لي أن أمثال الأمين وأبو خليل، وآخرين سواهم من العرب المحسوبين أصدقاء، لا أعداء، لهم أكثر قسوة وشراسةً في "فُرجتهم" على ما يحدُث، و"تصفيقهم" لازدياد عدد القتلى، وانفصالهم عن حجم المعاناة. وكأنّه ثمّة تشهٍّ لديهم لمزيدٍ من الموت، أو على الأقلّ، قلّة اعتبار تامّة له، أو النظر إلى موت الأطفال والأبرياء من الرجال والنساء، في أفضل الأحوال، كونه نوعا من "أضرارٍ جانبية" محتومة، في المعركة التي تخوضها المقاومة مع العدو. هؤلاء، برأيي، لا يختلفون ربما كثيرا عن العدوّ في "استسهالهم الأمر" الذي ينفونه عن أنفسهم، إذ ما معنى أن تُفرَّغ تلك الفظائع من محتواها، وأن تُحيَّد تلك الأوجاع والآلام التي يخلّفها موتُ أعضاء أسرٍ بأكملها ومرأى جثث أطفالٍ بأعينٍ نصف مفتوحة، وأجسادٍ رخوةٍ غادرتها الحياة وقد تعفّرت بالردم والحرائق وسخام الموت. كيف يحتملون رؤية طفل ناج يرتجف كورقة وهو ينظر من حوله وقد شلّه الذّعر وعدم الفهم، وكيف لا يسمعون صراخ الآباء والأمّهات وهم ينادون أطفالهم بأصواتٍ مخنوقة، ملصقين أفواههم بالأرض علّ أحدهم يجيبهم من تحت الركام. كيف لا يروْن في هؤلاء سوى أرقام يمكن استبدالها، ببساطةٍ، بأرقام أخرى.
قالها إبراهيم الأمين وهو شبه مبتسم لأنه وجد برأيه الردَّ المُفحِم: 50 ألف امرأة فلسطينية حامل! من أين جاء بهذا الرقم، بل وماذا جاءت الأرقام تفعل هنا، إن لم تكن لتُحصي القتلى والجرحى ومقدار التوحّش ودرجة اللامبالاة والقسوة في الأنظمة المعتبرة حضارية وحرّة. أجل ستُنجب نساء فلسطين مزيدا من الأطفال، لكنها لن تُنجبهم لتستبدل بهم من حرقوا قلوبهن وانتُزعوا من أعمارهنّ وأحشائهن. لن تُنجب نساء فلسطين، يا إبراهيم الأمين، أطفالا لكي تحسبهم أنت أرقاما يمكن استبدالها..
في تعليقها على "إنستغرام"، كتبت الممثلة المعروفة أنجلينا جولي: "40 بالمئة من القتلى أطفال أبرياء. عائلات بأكملها تُقتل. وبينما يراقب العالم وبدعم نشط من حكوماتٍ عديدة، يتعرّض ملايين المدنيين الفلسطينيين، الأطفال والنساء والأسر، للعقاب الجماعي وتجريدهم من إنسانيتهم، ذلك كله بينما يُحرمون من الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية بما يتعارض مع القانون الدولي".
أهذه أرقام وتلك أرقام؟!