نحن وبينغ بين ماو ودينغ
هذا مشهد عربي صيني من مشاهد الكوميديا السوداء. يبدأ من تقرير ممتع عقلياً (وإن خلا من الإثارة السياسية بمعناها المألوف)، نشره موقع الشرق بلومبيرغ الإخباري العربي (23/7/2024). وبحسب التقرير، شهدت جلسة مُهمّة للحزب الشيوعي الصيني مطالب بـ"إصلاح اقتصادي". وفي التقرير حرفياً أنّ "من بين مجموعة من أبطال الحزب الشيوعي، غالباً ما يتم وضع الرئيس الصيني شي جين بينغ من قبل مسؤولي الدعاية في الصين في (خندق واحد) مع ماو تسي تونغ، مؤسّس الجمهورية الشعبية". لكن أخيراً في وثيقة تضمّ قرارات اجتماع السياسة الرئيس للحزب، "ربط الرئيس الصيني نفسه بشكل أوثق بدينغ شياو بينغ، الزعيم الأبرز السابق الذي فتحت إصلاحاتُه (التي صَنعت عصراً) في عام 1978 الصين على قوى السوق". وعلّقت "فاينانشيال تايمز" الرصينة على القرارات بأنّها أعطت إشارة أكبر إلى دينغ شياو بينغ أكثر ممّا كان متوقَّعاً. وتضمّنت القرارت أكثر من 300 إصلاح مُقترَح (!) وبقي الهدف الشامل لبكين "التجديد العظيم للدولة الصينية"، بتعزيز "الاعتماد على الذات في المستويين العلمي والتكنولوجي".
والمشهد مهمٌّ عربياً من زوايا عديدة. أولها طوفان أدبيات امتلأ بها الفضاء العام العربي خلال عقود مضت، تضفي هالةً كاذبةً من القداسة على التجربة الصينية، وتربط أوجه نجاحها بسنوات حكم ماو تسي تونغ، الذي قاد الحزب الشيوعي الصيني بين 1949 و1976، وهو تضليل يبلغ غاية في الضخامة، إذ تسبَّب الرجل في كارثة سياسية اقتصادية، تسبَّبت في مجاعة عُظمى توفِّي فيها عشرات الملايين، ولم ينقذ الصين حقيقةً إلا السياسات المنفتحة لخليفته دينغ شياو بينغ.
من أكذوبة "المستبدّ العادل" تنتشر بين شرائحَ واسعةٍ من النخبة رغبةٌ عارمةٌ في البحث عن دليل على صحّة الخرافة
وجه الأهمية الثاني لهذا المشهد العربي الصيني تبنّي صنّاع قرار عرب نموذجَ ما سمّي زوراً "القفزة العظيمة إلى الأمام"، نموذجاً مُلهِماً لبناء دولهم، رغم أنّها في الحقيقة "قفزة كبيرة إلى الجحيم"، وقد كتب صاحب هذه السطور مُبكّراً مستشرفاً هذا الاستلهام ومخاطره ("(استنساخ) القفزة العظيمة إلى الأمام"، ("العربي الجديد"، 20/12/ 2019). واليوم هناك من يتحدّث عن الشعب الذي عاش المجاعة سنوات ومات منه عشرات الملايين، ثم قام ليبني بلده لا ليهدمه.
وعندما يقرّر الزعيم الشيوعي شي جين بينغ أن يربط خياراته بسلفه دينغ شياو بينغ، نافياً أن يكون منحازاً إلى خيارات ماو تسي تونغ، التي ما يزال بعضهم يُروّجها سبباً في ما حقَّقته الصين اقتصادياً. وغنيٌّ عن البيان هنا أنّ التجربة الصينية كلّها، منذ التأسيس، ليس فيها شيء مُلهِم، بل هي تجربة في الاجتماع السياسي تنطوي على عيوب بنيوية خطيرة في مراحلها كلّها.
وعندما تستخدم الطبيعة الشمولية الاستبدادية للتجربة الصينية مُبرِّراً لتسويق أفضلية الاستبداد على الديمقراطية، فإنّ الأمر حينئذٍ يتجاوز السجالات الاقتصادية النظرية ليصبح قضيةً سياسيةً أكثر خطورةً وأبعدَ تأثيراً بكثير من النقاشات الاقتصادية البحتة. وخلال ما يزيد عن نصف قرن بحثت نُخَب رسمية شمولية عربية عن نموذج تسوّق به فكرةَ أنّ إشباع بطون الجائعين، والخروج من مستنقع التخلّف، لا يتطلّب بالضرورة بناء نظام سياسي يقوم على حرّية اختيار الحكّام، والقدرة على محاسبتهم وعزلهم من مناصبهم.
وبدايةً من أكذوبة "المستبدّ العادل" التي روجها جيل من التنويريين العرب، في مقدّمتهم جمال الدين الأفغاني، تنتشر بين شرائحَ واسعةٍ من النخبة رغبةٌ عارمةٌ في البحث عن دليل على صحّة الخرافة. وقرارات الحزب الشيوعي الصيني المشار إليها أكّدت تأكيداً غير مسبوق أهمّية الابتكار التكنولوجي وسيلةً لبناء المستقبل، وهو ما ينطوي على مفارقة عربية أخرى خطيرة، فتجارب التنمية الاقتصادية العربية كلّها، في الدول النفطية وغير النفطية، لم تولِ التكنولوجيا القدر الكافي من الاهتمام، لا في سنوات الشدّة ولا في عقود الرخاء، وغلب على التجارب كلّها الركضُ وراء شراء التقدّم بنظام "تسليم المفتاح"، بينما الصهاينة على سبيل المثال كانوا حريصين على إنشاء "الجامعة العبرية" (1925) قبل إنشاء الكيان السياسي (1948).
وفي عالم أصبحت فيه الشركات الخاصّة الغربية أكبر منتجي التكنولوجيا لا تكاد رؤوس الأموال العربية الخاصّة تُفكِّر في الاستثمار في إنتاج التكنولوجيا، وعلى سبيل المثال فإنّ عُشر الاستثمارات الخاصّة العربية في قطاع العقارات، الذي يشهد تضخّماً مُخيفاً، كان يمكن أن يُغير وجه التاريخ العربي.