نحن الذين نمضي إلى الهاوية نحيّيكم

06 مايو 2023
+ الخط -

أيها السيدات والسادة: نحيّيكم من بلدٍ حلم بمستقبل أفضل. بلد طمع في الحديقة، بعد أن أعياه الجدْب. حكايتنا معروفة لكثيرين. منذ استقلالنا في العام 1956 ونحن نطلب الديمقراطية. نعيشها عاميْن، أو ثلاثة، ثم ينهض من وراء كوابيسنا وحش العسكر. يستيقظ مثل السيكلوب الأسطوري. عملاق بعينٍ واحدة، لا يرى بها للحرية معنى، ولا للشعب قيمة. عينُه الوحيدة لا ترى إلا البطش. ومثل بوفلميوس بن بوسيدون، سيكلوب ملحمة الأوديسة، يلتقط ديمقراطيّتنا الهزيلة، ويلتهمها. كان أوديسيوس ورفاقه أوفر حظاً منا. قتلوا وحشهم. أما نحنُ فكلما قتلنا وحشنا بثورة شعبية، قام من دمه آخر. لكننا لا نستسلم. جيلاً بعد جيل، نكرّر المحاولة. فلا ماتت أحلامنا، ولا هلكت الوحوش.

***

يونيسف: الوضع الإنساني في السودان أصبح كارثياً.

***

في العام 2018، هبّت عواصفنا مرّة أخرى. ونظر العالم إلينا في دهشةٍ ونحن نصمد أمام بطش العسكر ووكلاء السماء. تقدّمنا نحو الحلم خطوات. ظننا أن الحديقة باتت في متناولنا. ثم ماذا؟ ها نحن اليوم نخاطبكم من بين الركام، ووسط قصف القنابل. حلُمنا أن نغير بلادنا بالهتاف، والعمل السلمي، وبأن نقول لا. لكن وحشنا هبّ مرّة أخرى.

***

نقابة أطباء السودان: تقارير عن وفاة مرضى في منازلهم بسبب عدم توفر العناية الطبية. أكثر من 12 ألف مريض معرّضون للموت بسبب الأوضاع الصحية.

***

أيها السيدات والسادة. كانت لنا أحلام. لكنهم أطلقوا عليها الرصاص. نحن الذين هتفنا للحرية، تملأ الجثث شوارعنا. خلال أسابيع ثلاثة نزحنا عن بلادنا. مات أحبابُنا. أغلقت مستشفياتنا. نفد غذاؤنا. وصارت عاصمتنا رماداً. يختبئ من بقي منا حيّاً، وما حملته دروب النزوح، متمنّياً السلامة. وخارج نافذته، يتقاتل وحشان. كلّ منهما لا يرانا إلا بمقدار ما يطمع في حكمنا. تشتعل النار في بلادنا. والمقاتل يقول لزميله في مرح "اليوم هو يوم النصر". يمرّ اليوم، فنُحصي ضحايانا، ونتفقد خساراتنا، ولا يجيء النصر لمقاتل. ينتظرون النصر، وننتظر أخبار أحبابنا.

- هل أنتم بخير؟

- نحن بخير. حتى الآن.

ثم يهوي صاروخ حربي، فنعاود السؤال، ويكرّرون الإجابة.

***

مبعوث الأمم المتحدة للشؤون الانسانية مارتن غريفيث: قلقون بشأن ندرة الغذاء والمياه ونقص اللقاحات في ‎السودان.

***

أيها السيدات والسادة: يظنّ بعضهم أن السعيد منا هو من فقد الأمل. من لم يعُد ينتظر شيئاً. فليس هناك آتٍ. ما تركناه خلفنا قد لا نعود إليه. فعلام التعلّق؟ في دولة ما غادر مواطنٌ بيته، واثقاً أنه سيعود خلال أيام. بعد سنواتٍ يحكي هذه الحكاية، وهو يحلُم بالعودة. فلماذا نظنّ أن قدرنا مختلف؟ هل أصبح اليأس هو طمأنينتنا الأخيرة؟ أتأمل مفتاح منزلي كل يوم. وأتذكّر لوحة رأيتها في سوق بيت لحم، كُتب فيها "ما زلتُ أحمل المفتاح". نحن ما زلنا نحمل المفاتيح. ويحدونا أملٌ مخاتلٌ قاسٍ. ويعدنا المقاتلون بالنصر بعد يوم، أو أيام. لا نرمي المفاتيح، ولا يحقّقون الوعود.

***

نقابة أطباء السودان: كل المستشفيات العامة في العاصمة توقفت عن العمل.

***

البلاد التي حلُمت بالحديقة، احترقت حديقتُها. وداست أقدامُ المقاتلين على أحلامها. تكاد تكمل شهراً ولا صوت فيها يعلو فوق صوت الكارثة. ونحن نعلم، إذ لا أوهام لدينا، أن الهاوية تنادي هالكيها بالأمل في النصر، بعد يوم أو أيام. كل من سبقونا إلى هناك ظنّوا أنها أيامٌ معدودات، ثم يحتفلون بالنصر. وبعد سنواتٍ كان سؤالهم "كيف وصلنا إلى هنا؟".

***

مساعد مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: أكثر من 800 ألف شخص ربما يفرّون من ‎السودان.

***

أيها السيدات والسادة: ها نحن بلد آخر يتفكّك ويوشك على الانهيار بسبب جنون السلطة، وسطوة شهوة القتل. ربما لم يعد من الممكن إنقاذُنا. لكن ربما كنا عبرةً لمن بعدنا. لم تحترق بلادنا لأننا حلمنا بالحرية، لكن أعداء الحرية أحرقوها، حتى لا تتحقّق أحلامنا. احلموا بالحرية كما حلمنا. لكن احذروا من وحوشكم. فإن وحشنا غالبنا، فغلبنا إلى حين.

أيها السيدات والسادة: نحن الذين نمضي إلى الهاوية نحيّيكم. ونقول لكم "ربما من رماد حديقتنا، يأتي الربيع"، فتمنّوا لنا ذلك.