من برينسيب إلى كروكس
في أحد الشوارع الجانبية بمدينة سراييفو، أطلق غافريلو برينسيب النار على وليّ عهد النمسا الأرشيدوق فرانتز فرديناند فقتله داخل سيارته. الحادث الذي وقع في يونيو/ حزيران 1914، ووصفته صحيفة الإندبندنت وقتها بأنّه مؤسف لكنّه غير مُهمّ، قاد مباشرة إلى نشوب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). كان الحادث مهمّاً وغيّر التاريخ، رغم أنّ "الإندبندنت" لم ترَ ذلك مقبلاً. لكنّنا اليوم نعرف أكثر.
لم يتوقّف تأثير الرصاصات التي أطلقها الشاب الصربي برينسيب عند نشوب الحرب العظمى، لكنّه امتدّ ليشعل الحرب العالمية الثانية أيضاً، فمعاهدة فرساي المُوقّعة في 1919 لم تنهِ العداء، إنّما فتحت الطريق لصعود النازية ولانتقام ألماني مخيف من العالم كلّه. هذا يعرفه كلّ طالب مدرسة.
بلا مبالغة، يمكن اتهام رصاصات غافريلو برينسيب بأنّها تسببت في مقتل أكثر من 20 مليون إنسان بشكل مباشر في الحرب العالمية الأولى، وأكثر من 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية. وانهارت نتيجة لها إمبراطوريات عدّة، وصعدت الولايات المتّحدة على عرش الكوكب، وتكوّنت دول قومية. حتّى بنيامين نتنياهو جاء بشكل مباشر من فوهة مسدّس الطالب الصربي المُتعصّب. يمكن القول إنّ الطالب الصربي المُتحمّس لقضية شعبه قد تسبّب في قتل عشرات الملايين بشكل مباشر، ومئات الملايين غيرهم بشكل غير مباشر.
كان برينسيب يبلغ بالكاد العشرين عاماً لمّا أطلق الرصاصات الأخطر في التاريخ الحديث. وفي بنسيلفانيا، في يوليو/ تمّوز 2024، أطلق شاب أميركي، لم يتجاوز العشرين من العمر، الرصاص على المُرشّح الرئاسي الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في ما يبدو إعادة لكارثة برينسيب. فشل الشاب الأميركي بعكس ذاك الصربي، فبينما مات أرشيدوق النمسا وأصبح برينسيب بطلاً قومياً في صربياً، نجا ترامب ومات توماس ماثيو كروكس، ولا أظنّه سيصبح بطلاً في أيّ مكان. أول نتائج محاولة اغتيال ترامب حصوله على الدعم الكافي للترشّح، وربّما للفوز. فقبل تلك الرصاصات الطائشة الحمقاء لم يكن موقف الرئيس السابق يختلف في السوء عن موقف خصمه الرئيس الحالي. ربما يكون كروكس قد وضع ترامب على عرش العالم بمحاولته البائسة لاغتياله.
يعود ترامب وفي نفسه مرارة الهزيمة السابقة، وضلالاته تُخبره بأنّ رئاسته المُنقضية قد سُرِقت، وأنّ الانتخابات زُوِّرت لصالح خصمه الديمقراطي. ففي عقل اليميني المُتعصّب، هناك مؤامرة ليبرالية شيوعية شيطانية تستهدف عادات المجتمع الأميركي وقيمه. أمر لا يختلف كثيراً عن اليمين العربي المؤمن بالمؤامرات التي تستهدف دينه وعاداته وقيمه. هكذا يعود الوحش الجريح لينتقم. لديه أربع سنوات أخيرة ليثأر، وليشكّل مُستقبل الولايات المتّحدة، وللأسف، العالم. وهو أمر مفهوم لمليونير لا يمتلك أيّ فكر أو مشروع، إنّما مُجرّد جوع وحشي للسلطة، ورغبة طفولية في ايذاء الجميع لإثبات شيءٍ ما للنفس. لذلك لن يترك هذه الفرصة الرئاسية الأخيرة تمرّ كما تمرّ فترات الحكم الثانية لرؤساء آخرين. فبحسب سياسيين جمهوريين، ينوي الحزب اليميني إجراء عملية سيطرة واسعة على الإدارة الأميركية في حال الفوز. جزء من هذه العملية تعيين موظّفين جمهوريين في مفاصل الدولة، مع تفكيك الدولة إدارياً. وهي خطّة تليق بمجموعة مُتطرّفة، لا فرق بين أن تنتمي إلى العالم الأول أو إلى العالم الثالث. ففي النزعات الشمولية لا تهمّ هذه الفروق.
لن تكون عودة دونالد ترامب المحتملة إلى السلطة بسهولة فترة حكمه الأولى، إن جاز وصف فترته الأولى بالسهولة. وبعد رصاصات كروكس أصبح ترامب أقوى، بل إنّه يتحدّث إنّ الأطباء تعجّبوا من نجاته، واعتبروها "معجزة". هكذا سينظر لنفسه أنّ القدر ذاته تدخّل لينقذ حياته بمعجزة، لأنّ هناك دوراً كبيراً يجب أن يقوم به. كأنّ ضلالات الرجل كانت تنقُص بعداً دينياً يجعله يعتبر نفسه المُخلّص القادم.
مات توماس كروكس قبل أن نعرف لماذا فعل فعلته هذه. وستنشط نظريات المؤامرة عن جريمته زمناً طويلاً. لكن العالم كلّه سيدفع ثمن تهوّره هذا. ولا يقف بيننا وبين الكارثة إلّا رجل صهيوني هدّه السن والمرض، يتشبث بالسلطة كأيّ ديكتاتور يحكم جمهورية موز.
قد يكون كروكس لم يصب دونالد ترامب، لكنّ الرصاصة التي أطلقها قد تكون أصابت العالم كلّه في مقتل.