نتنياهو في معركته الأخيرة
على خلاف الطريقة التي تُدار فيها بلاد عديدة في العالم العربي، لا يحدد الأشخاص في الدولة العبرية السياسات العامة، بل هذه هي التي تُحدد الذين ينفذونها، ولعل من أبرز مفردات السياسة العامة الإسرائيلية، أنها تحتاج دوماً للحماية، ولذلك، هي تأخذ السلام، ولا تعطيه، كما أنها وفق العقلية الصهيونية "لا تُهزم" في أي ميدان تقاتل فيه، ورغم الكم الكبير من الانتقادات اللاذعة، بشأن الطريقة التي أدار بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عدوانه على قطاع غزة، والنتائج الكارثية التي مُني بها، على الأصعدة كافة، السياسية والعسكرية والأمنية، فضلاً عن الاقتصادية، والتي ترتقي جميعها إلى مستوى الهزيمة النكراء؛ بقيت في إسرائيل نظرة المحللين السياسيين والعسكريين إليها باعتبارها "فشلاً" وليست هزيمة، حتى أن المجتمع الإسرائيلي اعتبر الحرب على غزة، أخيراً، انتهت إلى "تعادل" بلا منتصر ولا مهزوم، فلا يوجد في القاموس العبري لمثل هذا الوصف كنتيجة لأية معركةٍ تخوضها مع خارجها القريب أو البعيد، وعملية الانتقاد والتقييم الجارية حالياً، في أعقاب العدوان، تنحصر مهمتها فقط في مقارنة الأهداف والنتائج، والاستفادة من الدروس وأخذ العبر، والتحضير لدق ناقوس الخطر في حال تجاوز الثمن المدفوع معدلات الكلفة المسموح بها إسرائيلياً، والنقاش يدور، غالباً، حول تغيير الأشخاص والوسائل وليس تغيير الأهداف.
وهذه الأخيرة، هي ما تفتح شهية الأحزاب الإسرائيلية وزعمائها في التباري عليها، وتصيّد فشل خصومهم في إنجازها، كما يحصل، الآن، مع بنيامين نتنياهو، فهو فشل في تحقيق أهداف العدوان الذي شنه على قطاع غزة، والذي تقلص تدريجياً من القضاء على حركة حماس، وحكومة الوفاق الفلسطينية، إلى القضاء على الأنفاق، مروراً بالبنية التحتية لها، كما فشل سياسياً في تبريره أمام العالم، والسيطرة على ارتفاع مستوى الانتقادات والغضب العالمي من إسرائيل، فضلاً عن ارتفاع حدة التوتر في علاقتها مع الولايات المتحدة، حليفتها الأهم في العالم، بعد توجيه البيت الأبيض انتقادات شديدة لها، بسبب المجازر البشعة التي قامت بها في أثناء العدوان، والتي اعتبرت، بحسب الصحافة العبرية؛ قاسية، وتهدد بتقليص الدعم الأميركي الاستراتيجي لإسرائيل، بيد أن هذا الوضع المحرج الذي تمر به إسرائيل لا يعني أنها لا تستطيع التعامل معه، كما تعاملت مع مواقف أشد إحراجاً في السابق، كما أنه لا يجعل رئيس الحكومة الإسرائيلية عاجزاً عن الإفلات، في الوقت الحالي، من عواقبها الوخيمة عليه، فالمعركة لم تنته بعد، وما حصل أن أصوات المدافع والقصف الجوي على الجبهة العسكرية خمدت، بينما، هي مستمرة على الجبهة السياسية في القاهرة وسواها.
الجميع في إسرائيل يدرك ذلك، والضجيج الذي تُحدثه الصحافة الإسرائيلية وتصريحات السياسيين والعسكريين، الغرض الرئيس منه تصحيح الوسيلة، ورفع أداء الحكومة الإسرائيلية. رسائلها وصلت إلى نتنياهو، وبدأ استجابته لها أولاً، بالدفاع عن أدائه، معتبراً أن حكومته لم تفشل في تحقيق أهدافها، بل على العكس، إلى جانب تلك الأهداف، حققت هدفاً استراتيجياً لم يكن بالحُسبان، هو مد جسور مع ما أطلق عليه "محور الاعتدال العربي"، والذي سوف ينقل إسرائيل إلى "أفق سياسي جديد" في المنطقة، ولتهدئة خصومه السياسيين من حلفائه ولجم انتقاداتهم، بهدف حماية ائتلافه الحكومي من الانهيار، صادق على قرار مصادرة حوالى أربعة آلاف دونم من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وضمها إلى مستوطنة "غوش عتصيون"، خُصصت لبناء حي جديد، يحمل أسماء المستوطنين الثلاثة الذين وجدوا مقتولين قرب الخليل. بذلك، نجح نتنياهو في استمالة اليمين المتطرف وتغيير موقف نفتالي بينت، زعيم حزب المستوطنين "البيت اليهودي"، الذي كان ينتقده بضراوة احتجاجاً على قبوله وقف إطلاق النار، وهذا الإجراء، من ناحية ثانية، يُرضي وزير خارجيته، أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرف، وقد يُغريه بالعودة إلى الائتلاف الحكومي الذي خرج منه، بسبب الخلافات مع نتنياهو بشأن سبل الرد على عملية (خطف المستوطنين)، قبل بداية العدوان في السابع من يوليو/تموز الماضي، فقد يحصل، بدوره، على جائزة ترضيةٍ، يعود بها إلى أنصاره المتطرفين.
على مسار المفاوضات في القاهرة، من أجل تثبيت التهدئة وفك الحصار عن قطاع غزة، حرص نتنياهو على المماطلة والمناورة وزرع الألغام فيها، بهدف إشغال الوفد الفلسطيني بالتفاصيل الإجرائية وإدخاله في متاهة الجزئيات والصيغ الكتابية المفتوحة، والمتعلقة بالبنود المطروحة للتفاوض. وقد "تعهد" بإلحاق الهزيمة بحركة حماس في عدم تحقيق أي من مطالبها في المفاوضات. وكان في تلك الإجراءات والتعهدات، يحاول رشوة خصومه السياسيين، وتغيير مواقف معارضيه في الائتلاف الحكومي، فضلاً عن استعادة ثقة أنصاره في حزب الليكود والمجتمع الإسرائيلي، بعد أن تحطمت أهدافه ومساعيه في الجولة الماضية، على صخرة الوحدة الفلسطينية الميدانية، مؤكداً لهم أن معركته ودوره لم ينتهيان بعد، ولازال يمتلك ما يقدمه للتعويض عن هذا الفشل.
في تلك المحاولة، لم يكن نتنياهو يسعى إلى بقاء حزبه "الليكود" في الحكومة الحالية، أو المقبلة في حال انهارت، وجرت انتخابات عامة جديدة، فبحسب استطلاع للرأي، نشرته صحيفة "هآرتس" في 28 أغسطس/آب الماضي، فإن حزب الليكود لازال قوياً، ويمكنه الاستمرار في مواجهة أحزاب اليمين والوسط، إذا ما جرت انتخابات عامة جديدة على مقاعد الكنيست. وتوقعت الصحيفة أن يستطيع الليكود، مع أحزاب اليمين المتطرف، مجتمعة، تكوين ائتلاف حكومي، يتمتع بأغلبية مريحة في الكنيست. وما يقلق نتنياهو هو شبح الهزيمة المرّة التي تلقاها على يد إيهود باراك عام 1999، عندما انهار ائتلافه الحكومي حينها، بسبب عمليات المقاومة الفلسطينية، وفقد بريقه اللامع، بعد أن كان أصغر رئيس وزراء إسرائيلي، في تاريخ الدولة العبرية، امتدت ولايته ثلاث سنوات فقط، اضطر بعدها إلى اعتزال العمل السياسي مؤقتاً ، وهو، الآن، يرفض بعناد "الهزيمة" التي لحقت به، كما يرفض قبول أن تكون النتائج الكارثية سياسياً واقتصادياً وأمنياً على إسرائيل، بسبب حربه على غزة، هي وصمة العار التي يخرج بها من رئاسة الحكومة للمرة الثانية. لذلك، يقوم بكل ما في وسعه للبقاء في منصبه، متكئاً على خبرته السياسية والدبلوماسية الطويلة، فقد بات في معركة "شخصية" مفتوحة مع الجميع، الرأي العام الإسرائيلي والدولي، وائتلافه الحكومي، والانتخابات الداخلية في حزبه التي قد تبعده عن زعامته، وبالتالي، عن رئاسة الحكومة. وأخيراً، مع الجانب الفلسطيني الذي يجب أن ينتزع منه الانتصار الكبير الذي يختم به مسيرته السياسية، ومن البدهي، في هذه الحالة، أن يكون في هذه المعركة الأخيرة، بالنسبة له، أكثر مراوغة وتطرفاً، وربما دموية، للحصول على هذا النصر بأي ثمن.
في المحصلة؛ يرزح نتنياهو تحت ضغوط كبيرة، ويسعى إلى كسب الوقت في جولة جديدة، ليُثبت أنه تعلم من هزيمته القديمة، وأنه الابن البار للكيان العبري وسياساته العامة، وهو، الآن، يُعيد ترتيب بيته الداخلي ويتهيأ للانقضاض على الطرف الفلسطيني، والسؤال الذي يفرض نفسه، والحال كهذه؛ هل ستتحطم مساعيه، للمرة الثانية والأخيرة، على صخرة الوحدة الفلسطينية؟ أم أن عودة المناكفات بين حركتي فتح وحماس، سوف تُفتت تلك الصخرة، وتمنحه الفرصة لإحراز ذلك النصر الذي ينقذه؟