08 سبتمبر 2016
صحوة المثقفين العرب.. ضرورة تاريخية
تتقاسم العالم العربي أزمات كبرى عديدة، تختلف قوتها وشدتها، ومدى بروزها جغرافياً قرباً من بلدان الربيع العربي أو في داخل هذه البلدان، أهمها الانتهاء من المخاض العسير في بناء الدولة الديمقراطية في الدول التي سقطت أنظمتها، فضلاً عن التصدي للثورة المضادة ووصول الحكم إلى نظام شمولي جديد، كما يحدث في مصر، أو دعوات التقسيم والاحتكام للقوة والمواقف المتقلبة من الحوار الوطني، كما يحصل في ليبيا، بيد أن الكارثة الأشمل والأعم، والتي تتجاوز حدودها الجغرافية إلى مناطق عديدة على الخارطة العربية، وربما العالم، هو ما يحصل في جمهورية العراق وشقيقتها سورية، نتيجة السياسات الطائفية التي قام بها نظام نوري المالكي، والتي أدخلت بلاده في حرب مذهبية مجهولة النهاية، والنظام السوري الذي مارس فتكاً ممنهجاً ودموياً بأبناء وطنه، مستخدماً كل ترسانته العسكرية لسحق آمال الشعب السوري بالخلاص منه، بما فيها الورقة "الطائفية"، واستطاع من خلالها تحويل مسار المواجهة من ثورة شعبية إلى صراع طائفي، يقسّم الشعب الواحد إلى طوائف متحاربة فيما بينها، وأخرى فاقدة للثقة معهم.
التطرف وإيران
وكما هو معروف، قادت هذه الممارسات والسياسات إلى تأجيج المشاعر الدينية، ومهدت الطريق أمام ظهور التطرف الديني، ناشباً أنيابه الحادة في البلدين، ومتنقلاً من مكان إلى آخر، بحسب قدرته على الوصول، والمناخات السياسية والأمنية التي تسمح له بالانتشار، فضلاً عن أن الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام السوري، وما يزال؛ بحق مئات آلاف من شعبه، وانتشار المليشيات الشيعية وتغولها وإجرامها بحق أبناء الطائفة السُنيّة في العراق وسورية، ساهمت، إلى حد بعيد، في تسريع عملية انهيار المقاومة الهشة أساساً لدى ضحاياهم من الطبقات الاجتماعية المسحوقة، ودفعت كثيرين منهم باتجاه المفاضلة والانحياز إلى جانب تطرف، يدّعي الدفاع عنهم في وجه تطرف مضاد، يسعى إلى قتلهم. وكانت إيران، بلا منازع، عرّابة هذه الفوضى الدموية والحرب الطائفية، بدعمها اللامحدود لنظامي الأسد والمالكي وجماعة الحوثيين وعبدالله صالح في اليمن، وتفريخها مليشياتها الطائفية وتسليحها ونشرها في كل مكان تستطيع الوصول إليه. وجاء الاتفاق النووي، أخيراً، والعاري من كف اليد الإيرانية عن العبث بأمن المنطقة واستقرارها، ليرسم ملامح أكثر سوداوية للمشهد المأزوم، ويزيد الشكوك المشروعة، حول وجود توافق دولي، يسمح لإيران بلعب دور الشرطي الإقليمي، على حساب مصالح دول المنطقة، وأماني شعوبها التواقة للخلاص من الهيمنة الإيرانية وأنظمة الحكم المجرمة. وهذا قد يفرض السيناريو الأكثر تشاؤماً، وهو دفع العديد من تلك الدول العربية الرافضة للتسليم بإرادة القوة الإيرانية والدولية، على حساب إرادتها ومصالحها القومية، نحو سباق تسلح، سوف يطيل من عمر المواجهة والتوترات، ويستنزف قدراتها، ويعطل مشاريعها التنموية في مختلف المجالات.
إذاً؛ بات المشرق العربي، خصوصاً، ساحة صراع إقليمي ودولي، فضلاً عن تحوله لمنطقة جذب للمتطرفين (الشيعة والسنة) من كل أنحاء العالم مع الارتفاع المضطرد لأرقام المجازر البشعة والضحايا الأبرياء، والمترافق مع انتشار "الفكر الخلاصي" بين الناس، والذي يمنح الشرعية والقدسية على المعركة بين أنصار "المهدي المنتظر" وأنصار "دولة الخلافة" الناشئة، ومن السهولة بمكان الجزم، والحال كهذه؛ بأن هذه المرحلة هي الأصعب منذ قرون طويلة، إن لم تكن الأصعب على الإطلاق منذ نشوء الهوية العربية، عبر شراكة التاريخ والجغرافيا واللغة والدين، فقد باتت الهوية العربية، أو الوطنية، في ظل الصراع الدائر غير ذات قيمة في وجه الهوية الدينية المتصاعدة، مع العملية الجارية في إعادة رسم الخرائط، وتغيير الديموغرافيا السكانية على أساس مذهبي في كلٍ من العراق وسورية خصوصاً.
أسئلة.. وإجابة ممكنة
ولكن، كيف وصلنا إلى هنا؟ كتب وطرح الكثير في تحليل الأحداث التي قادتنا إلى الدخول في هذا النفق المظلم، والدور الذي لعبته "الانكفاءة" الأميركية والمصالح الروسية والأطماع الإيرانية، فضلاً عن التذبذب الأوروبي الخاضع للإرادة الأميركية. وكانت نقطة الارتكاز على الدوام سياسة الإقصاء الطائفي في العراق، واستخدام القوة المفرطة جداً في سورية، جنباً إلى جنب، مع "القوة الناعمة"، أو جنود الأقلام الذين عملوا، بخبث شديد، على تفتيت الهوية الوطنية، وتقسيم المجتمع، وتشتيت وحدته الفكرية ووعيه الجماعي، ومواقفه مما يحصل في بلادهم. وكانت هذه القوة الناعمة السلاح الأخطر الذي دفع كثيرين إلى الضياع في أعماق هذه المتاهة القاتلة.
السؤال الأهم الآن، كيف يمكننا الخروج سالمين من هذا النفق المظلم والمتاهة القاتلة مع تحقيق أماني الشعوب بالحرية والكرامة؟ ليست الإجابة سهلة، لكنها ممكنة، وهي تعتمد، بشكل رئيس، على المثقفين العرب "الحقيقيين"، والذين يمثلون بارقة النور الوحيدة التي تنير درب الخروج من هذه الظلمات المحيطة، حيث تقع عليهم مهمة الخروج من المواقف النقدية "السلبية"، والتي تقتصر، في أحيانٍ كثيرة، على توضيح الواقع العربي وتفكيكه، وتقديم آرائهم حول الحلول المقترحة، من دون القيام بخطوات عملية في هذا الصدد، فضلاً عن أن هذه المواقف والحلول تبقى في مجال التحليل النظري. وعلى الرغم من وجود حالات جادة لكسرها وتجاوزها، بيد أن أغلب هذه المواقف تراوح في إطار الحلقة النخبوية الضيقة التي ينتمون إليها. وبالتالي، يتحول إلى جهد ضائع بكل أسف. ولعل أولى الخطوات العملية وأهمها لهؤلاء المثقفين، أصحاب المواقف الأخلاقية والإنسانية الثابتة، هي العمل على تحرير "مثقفي الأنظمة" من أوهامهم ومقولاتهم البائسة وإعادة تصويب دورهم، ليكونوا عامل بناء وليس عامل هدم وتفتيت لوحدة المجتمع وهويته الوطنية، والقيام بإدانة وليس تبرير جرائم الأنظمة أو التعامي عنها، والحفاظ على الترابط الاجتماعي والفكري والأخلاقي داخل مجتمعاتهم، وليس المساعدة في فرض حالة من الاغتراب الاجتماعي والسياسي والإنساني، وأيضاً الأخلاقي، على الفئات الثائرة ضد تلك الأنظمة، والعمل على معالجة كل هذه التداعيات الخطيرة والملموسة التي أدى إليها قيامهم بهذا الدور، ولعل السبيل الأنجع إلى تحقيق ذلك، إن لم يكن الوحيد، هو الابتعاد عن "شخصنة" المواقف والإقصاء المتعمد، والاتجاه نحو الحوار الهادف إلى توحيد المواقف، وذلك بالاتكاء على الأساس الأخلاقي الذي ينطلق منه جميع المثقفين في تحديد مواقفهم النقدية، والدفاع عن قيم العدالة والحرية والمساواة، وهو الرابط الوحيد الذي يجمعهم، بحسب ما كتبه إدوارد سعيد في "صور المثقف". والغاية هي إنهاء التقسيم والفصل الثقافي بين "نحن" و"هُم" في إطار الربيع العربي، والذي سُحب، أيضاً، في إطار القضية الواحدة، ولعل الحالة السورية تقدم النموذج الأوضح في هذا الصدد، حيث اتجهت رموز يسارية وفكرية عربية، نحو دعم موقف النظام السوري من انتفاضة شعبه، من دون النظر إلى العواقب الأخلاقية التي أضّرت بمبادئهم "هُم"، قبل حياة شعوبهم. وهذا يفرض عليهم ضرورة مراجعتها واتخاذ المواقف التي تتناسب ومبادئهم التي يحملونها، ويدافعون عنها، والخروج بموقف جماعي حازم وواضح، ويمتلك قوة التأثير، يُدافع عن حق الشعوب بالحرية والكرامة، ويدين الجرائم المرتكبة بحقها أياً كان فاعلها، وهذا هو الدور الجوهري الذي يلعبه "المثقف العمومي" في زمن الثورة، بما هي عملية هدم وتغيير جذري لبنية المجتمع والدولة، والذي يحدده عزمي بشارة في دراسته (عن المثقف والثورة، مايو/أيار 2013) في عملية "الكشف والتصدي للانحرافات الكبيرة التي قد تحدث خلال الثورة، أو في عملية التغيير والبناء اللاحق لأنظمة الحكم الجديدة"، وما أكثر هذه الانحرافات التي بين أيدينا، ولعل أبرزها انحرافات المثقفين أنفسهم.
يمكننا القول إن إجراء "الديالوغ" بين المثقفين العرب، عوضاً عن "المونولوغ"، بحسب تعبير طيب تيزيني، أمر ممكن، باعتبار أن كثيرين منهم أفلتوا، بالفعل، من قبضة النظام السياسي والأمني في بلادهم إلى المنافي الطوعية أو القسرية، بيد أن الخروج بموقف موحد إزاء قضايا الربيع العربي، وإنهاء الانقسام بين "نحن" و"هُم" في العالم العربي خطوة أولى وضرورية، للوصول إلى إنهاء الانقسام عبر الحوار، ومد جسور التواصل وتمتينها بين "نحن" العرب و"هُم" الغرب، وبالاتكاء من جديد على الأساس الأخلاقي لدى النُخب الثقافية الغربية، والعمل على كشف السياسات اللاأخلاقية التي تقوم بها حكوماتهم، ونتائجها الكارثية في المنطقة العربية أمام ناخبيها، ينتهي إلى اتخاذ موقف جماعي، يدعم الحقوق المشروعة للشعوب العربية، ويكون ضاغطاً ومؤثراً على تلك الحكومات، بحيث يدفعها إلى تعديل سياساتها في المنطقة، فضلاً عن أن هذه الخطوة، في حال القيام بها، سوف تساهم في كسر الصورة النمطية لدى الغرب عن العرب والعالم العربي.
وفي ظل الأوضاع المصيرية التي يعيشها الأخير، وعلى الرغم من سوداوية المشهد، بل ورداً عليها، برزت، في الأشهر القليلة الماضية، إرادة عربية صلبة تمثلت بتشكيل أول تحالف عربي للتصدي للنفوذ الإيراني في اليمن، وإعادة السلطة إلى الحكومة الشرعية، وشن أول حرب بقرار عربي منذ أكثر من أربعة عقود، كسرت بذلك حدة "المألوف" السياسي والسائد منذ ذلك الوقت في العالم العربي، والتي كانت تتكل "على الآخرين" من القوى الدولية، من أجل التدخل لصالحها، وهذا ما يجعل المناخ ملائماً أيضاً للقيام بصحوة حقيقية بين المثقفين العرب، تكون رداً على "الانحرافات" الخطيرة التي تسود فيما بينهم، وتلقي بظلالها المفجعة على مصير شعوبهم وأمانيهم، فهم الآن أمام مهمة تاريخية وأخلاقية وإنسانية، لا يمكن لأحد أن ينوب عنهم في أدائها، فالعطب كبير وواضح. وباتت "صحوة المثقفين" العرب ضرورة تُمليها شروط النجاة من ظلام الديكتاتورية والتطرف والفوضى الدموية إلى بر الأمان، والتاريخ وحده من سيحدد أولئك من كانوا من رواد هذه "الصحوة"، أو من "خانوا" مبادئهم، وخذلوا شعوبهم وتركوا مهمتهم الأساسية، وغرقوا في نرجسيتهم واستشراقاتهم الموهومة. ولا يزال الخيار مفتوحاً لكل المثقفين العرب لاختيار أماكنهم. وبالتأكيد، بحكم الواقع الذي نعيشه، فإن أفضل وقت لاتخاذ هذا القرار هو الآن.