عن مخيم اليرموك و"زمن الاشتباك" الجديد
يتحدث الروائي الراحل، غسان كنفاني، في إحدى قصصه، عن المراحل الأولى لمرارة اللجوء الفلسطيني، والالتحام الدائم مع الفقر والجوع والتشرد، عن "زمن الاشتباك"، الوجه الآخر لحرب صمتت مدافعها، وبدأ مقاتلوها صراعاً محموماً مع القهر والظلم والانكسار، وأعجوبة المرور اللحظي "بين طلقتين" والنجاة، حيث الفضيلة الأولى في ذاك الزمن هي "البقاء حيّاً" وكل شيء يأتي ثانياً. وما يحدث في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، جنوب دمشق، يقدم لنا نسخة جديدة أكثر قسوة، وأشد بشاعة، من زمن الاشتباك الأول، تُختزل فيه كل التجارب القاسية التي مرّ بها الفلسطيني منذ ذاك الزمن، وتقدمها إليه دفعة، فللحرب هناك عشرات الأوجه، مكثفة ومتزامنة، ويتعين على روادها التمسك، دوماً، بأعجوبة المرور اللحظي بين حربين أو أكثر، والنجاة لحظة أخرى.
هناك، داخل سجن الحصار، يخوض جميع السجناء حرباً مشتركة، من أجل البقاء على قيد الحياة، واختبار حقيقة أساطيرهم السابقة عن الصمود في زمن ٍ باتت فيه وسائل الإعلام تقدم موتهم "طازجا ً" على موائد العالم، ويعبرّ الأخير عن القلق، ولا شيء سواه، بينما يتقاسم ولاة الأمر في منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها العجز والخذلان، وبعضها الخيانة. والمحاصرون وحدهم يعيشون اشتباكا ً مستمراً مع سؤال الهوية، هوية المكان وهوية الإنسان فيه، فالمخيم سوريّ الأرض والمكان، وفلسطيني الهوى والبنيان، ولكلاهما حقٌّ على الآخر. ولكن، يبقى السؤال مستعصياً لدى المتسائلين، أيهما أولاً فلسطيني أم سوري؟ يجيب الحصار نيابة عنهم، فجميعهم أمام الموت بين يديه سواء، تمر سريعاً بالذاكرة قصص الحصار في تل الزعتر وبيروت وجنين، وتمنح هويتها وإرثها للحصار الجديد، تحدد، بلا لبس، الصفات المشتركة بينهم جميعاً، من يطلق الرصاص على رغيف الخبز، ويقطع المياه ويهدم البيوت. الأسماء اختلفت، بيد أن الغاية واحدة، وهي تطويعهم أو إقصاؤهم من الوجود وإدخال الناجين منه بالخطأ صراعاً جديداً بين الرسوخ في الذاكرة أو النسيان في فائض الموت السوري.
في مخيم اليرموك، حيث سُجلت أعلى معدلات الموت جوعاً على الإطلاق في سورية كلها، الاشتباك بين الجوع والفضيلة الأولى ينفجر غاضباً حيناً، ويستمر صامتاً أحياناً كثيرة، لا يعلن عن نفسه إلا بسقوط حالة وفاة جديدة، أو بحكاية والدٍ اعتدى على جاره وسرق منه حفنة من الأرز، فقط ليطعم به أولاده، كما لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام في هذا الزمن القاسي، حكايات الأمهات عن نجاتهنّ بأعجوبة المرور بين رصاصتين وقذيفة، وهنّ يَجمعن أعشاب الأرض من محاور القتال، بعد أن نفدت من أراضي المخيم وحدائقه، وكيف يتحايلن على مرارة طعمها لدى الأولاد بقليل من الملح والكلام الجميل عن الشبع! وعن إيمانهن بمعجزة ما سوف تحدث، عندما تعود المساعدات بعد انقطاع طويل، حين يستيقظن منذ الفجر، للذهاب إلى مكان التوزيع، يحدوهن الأمل بالنجاة من الاعتقال، حين تصبح المعاملة السيئة والمهانة فوق احتمالهن، ومن القنص أو القصف، والعودة إلى الأطفال مساءً، هن والمساعدات كلاهما سالم. أما الآباء، في زمن الحصار الممتد أمامهم بلا نهاية واضحة، فيمضون وقتهم بالاشتباك مع الجميع، من أجل تحقيق الفضيلة الأولى، وعليهم ترتيب العلاقة باستمرار مع المكاتب الإغاثية ومقرات المسلحين داخل ا
لمخيم، والتسابق مع الآخرين إلى المنازل، التي قُصفت بالأمس، للحصول على بقايا قطع الأثاث وأطر النوافذ والأبواب الخشبية للتدفئة والطهي، ومتابعة إجراء التجارب كـ"الخيميائي" في العصور السابقة، للحصول على القليل من طاقة الكهرباء، بما توفر لديهم من أدوات، أو البحث عن مصدر للمياه الصالحة للشرب والاستعمال اليومي. وفي زحمة هذه المهام الضرورية، يبقى أهم أعماله القيام بواجب حماية العائلة من الموت جوعاً، وأيضاً من طمع الجائعين "البريء"، كل هذا يحدث بلا ضوضاء كبيرة، فهو شأنٌ يومي بسيط داخل أسوار الحصار.
الأطفال المحاصرون، داخل المخيم، يجري بينهم اشتباك صامت آخر، بين من ولدوا داخل الحصار وأولئك المولودين قبله، الذاكرة الجمعية تضمهم معاً عن ليالي القصف العنيف، عندما يتكوروا جميعهم، مرعوبين، كالعصافير الصغيرة في أحضان أمهاتهم في كل مرة، بيد أن الذاكرة المشتركة تفترق عند الحديث عن شيء مجهول يدعى الفاكهة وأنواعها، عن طعمها وشكلها ولونها، وإصرار الأكبر سناً، لإخوتهم من أبناء الحصار، أن الحلويات شيء آخر غير مربى المشمش الذي يأتي في حصة العائلة من المساعدات، وأن في ساحة العيد ألعاباً كثيرة غير تلك الأرجوحة المهترئة والمبهرة لديهم، ويحكون لهم عن أبطال الرسوم المتحركة والليالي التي تشبه النهار بفضل المصابيح الكهربائية المنتشرة، وغيرها كثير من مفردات الذاكرة الناقصة في ما بينهم، والتي يرسمون بها لأشقائهم الصغار ذاك الفرق الكبير بين زمن الحصار الواقعي وآخر جميل حدّ الخرافة. أيضاً، ثمة اشتباك من نوع آخر، يدور بين جميع الأطفال من جهة والكبار من جهة ثانية، عندما يسمعونهم يتحدثون بكلمات يعجزون عن فهمها، عن معنى الكرامة والصمود، وعن رفضهم أن يكون اليرموك "تل زعتر" جديداً.
مخيم اليرموك هو العنوان الأبرز في الزمن المعاصر لزمن "الاشتباك" الفلسطيني الجديد، في حدوده الجغرافية، تندلع حروب عاتية بين الحصار والموت، وبين الجوع والفقر، وبين التشرد والصمود، وبين الهوية والوجود، وبين العدم والنسيان، وبين فوضى الذاكرة وتحدي الإرادة، بطريقة تشبه، إلى حد كبير، المسرحيات الملحمية التي تفيض بصراع المعاني والأفكار الإنسانية، وتنبئنا، في ختامها، بانتصار المعنى، لا البطل، في حكاية قد تكون مفترضة بنيتها الخيال فقط، بيد أن الصراع على مسرح اليرموك واقعي وحقيقي ومعلن، سكان المخيم هُم الأبطال والجمهور والضحية!، والعرض مستمر منذ حوالى ثلاث سنوات، تساقط على جنباته كثيرون من أبطاله الوهميين والحقيقيين، والمشاهد الحالية لا تنبئ عن نهاية قريبة وسعيدة، بيد أن زمن الاشتباك الممتد في مخيم اليرموك قد حدد، بوضوح، طبيعة الملحمة المعروضة على مسرحه، فالمعنى هو الصمود والبطل الحقيقي هو المكان.
كتب غسان كنفاني قصته عن هذا الزمن، منذ نصف قرن تقريباً، تحت عنوان (الصغير يذهب إلى المخيم – 1967) ضمن مجموعته القصصية (عن الرجال والبنادق)، والسؤال الذي بات ملحاً، هل توقف زمن الاشتباك يوماً لدى الفلسطيني عبر العقود الطويلة التي مرت منذ نكبته عام 1948؟ أم هو اشتباك عابر للزمن، مستمر ودائم، تتغير طبيعته وعناوينه، بحسب خارطة شتاته فقط؟