نبوءة ترامب لا فُضّ فوه

17 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في معرض هجومه الكاسح على منافسته في الانتخابات الرئاسية الوشيكة، وفي غمرة تزلّفه الشديد لأصوات الناخبين الأميركيين اليهود، قال دونالد ترامب، لا فُضَّ فوه، في المناظرة التلفزيونية أمام عشرات الملايين، إنّه إذا انتُخبت كامالا هاريس لمنصب الرئيس، ستختفي إسرائيل من الوجود خلال عامَين في الأكثر، الأمر الذي بدت معه هذه النبوءة بمثابة نذير شؤم إضافي، رفع درجة القلق الوجودي، المستشري أساساً في أوصال مجتمع انفجرت تناقضاته كلّها دفعة واحدة، وتعمّقت لديه حدّة أسئلة المصير المتعلّقة بمستقبل المشروع الصهيوني، على خلفية الفشل الاستراتيجي المُتفاقِم منذ نحو عام.
ليس ترامب عرّافاً، ولا هو قارئة فنجان. وبالتالي، كان من الممكن للمستخفّين به أن يمرّوا على قوله هذا مرور الكرام، لولا أنّ الرجل البرتقالي كان رئيساً أميركياً سابقاً منح دولة الاحتلال في عهده أكثر ممّا كانت تحلم به، ولولا أيضاً أنّه صاحب صفقة القرن المشؤومة، ومُرشّحٌ يحتلّ في هذه الآونة صدارة الأخبار داخل أميركا وفي العالم كلّه، الأمر الذي يجعل من كلّ كلمة ينطق بها موضع اهتمام لدى مُؤيّديه ومُعارضيه على حدّ سواء، وهو ما أدّى إلى اتّساع دويّ هذه النبوءة في أسماع المُخاطبين بها في داخل الدولة العبرية، وخارجها.
كان السجال الداخلي قد احتدم قبل السابع من أكتوبر (2023)، الفاصل بين زمنَين، وظهر التطيّر إزاء مستقبل الدولة العبرية على ألسنة قادة إسرائيليين سابقين، وكتَّاب وجنرالات مُتقاعدين، تحدّثوا عن خراب الهيكل الثالث، واستذكر بعضهم لعنة الثمانين من العمر في التجارب التاريخية الفاشلة لبني إسرائيل، وشكّك كثيرون منهم في قدرة دولتهم على البقاء إلى أجل طويل، ثمّ جاء "طوفان الأقصى" ليرفع درجة حرارة الأسئلة الساخنة أصلاً، وليطرح المزيد منها على نحو أشدّ حدَّة من قبل، سيّما بعد صعود الصهيونية الدينية ومحاولة الانقلاب القضائي.
في ظلّ هذه الأجواء المفعمة بالتحدّيات والخيارات المستحيلة، فضلاً عن الانقسامات والانسدادات، أتت نبوءة ترامب هذه مثل شرارة وقعت في حقل أعشاب جافّة، فأشعلت حريقاً كبيراً في الوعي الإسرائيلي، حيث موضع المعركة الأساسية في هذه الحرب، التي تواصل دفع دولة الاحتلال نحو شفير هاوية تراها كلُّ عينٍ بصيرةٍ، وتتحدّث عنها الصحافة العبرية والمُفكّرون وكلّ صاحب عقل سوي ورؤية بعيدة، إلّا بعض المجانين، الذين استولوا على المصحّة العقلية قبل عامَين، وراحوا يجرّون خلفهم الدولة والمجتمع والجيش والاقتصاد إلى مصير مجهول.
حين يهجس ترامب على هواء البثّ الفضائي المباشر بزوال إسرائيل خلال عامَين، فإنّه يقول ثلاثة أشياء مهمّة: أولها إنّ دولة الاحتلال لا يمكن لها الدفاع وحدها عن نفسها بنفسها، وإنّ بقاءها متعلّق بعاملٍ خارجي متغيّر بالضرورة الموضوعية، وليس بمحض قواها ومقوّماتها الذاتية. وثانيها أنّ هذه الدولة المجنونة تحوّلت من ذخر تاريخي للغرب وأداة ضاربة بيده، إلى عبء استراتيجي وأخلاقي واقتصادي. وثالثها إنّ اسرائيل هي الدولة الوحيدة في هذا العالم المُهدّدة بالزوال عن الخريطة عند أوّل هزيمة، جرّاء ضعف تكوين مُركَّباتها وهشاشة مُقوِّماتها التأسيسية من المساحة والسكّان إلى البيئة المُعادية.
في الذاكرة الغضّة تتجلّى حقيقة أنّ أميركا ومعظم الدول الأوروبية، قامت خلال تسعة أشهر، ولثلاث مرّات متعاقبة، بإرسال ترساناتها الحربية، بما في ذلك حاملات الطائرات، إلى بحار الشرق الأوسط ورماله، لحماية ربيبتها المُدلَّلة من خطر انهيارها، ومن ثمّ زوالها من جغرافيا هذه المنطقة، الأولى كانت غداة واقعة "طوفان الأقصى"، وكانت الثانية عشية الضربة الانتقامية الإيرانية في إبريل/ نيسان الماضي، أما الثالثة فقد انطلقت بحاملتَي طائراتٍ وبقوّةٍ جوّية هائلة، وذلك لتهدئة روع قوم فُلَّ حديدهم، وتمزَّقت روحهم صبيحة "7 أكتوبر".
بكلام آخر، سدّد ترامب، من دون أن يدري، طعنةً نجلاء إلى من رأوا فيه مُخلِّصاً، أو أخاً أكبرَ يُعطيهم أكثر ممّا يطلبون. طعنة وقعت في حيّز الوعي، حيث رحى المعركة الكُبرى الطويلة، بقوله إنّ مصيرهم النهائي ليس بين أيديهم، وإنّ وجودهم مُعلَّق على إرادة غيرهم، بمن في ذلك الأميركيون، الذين بدأت الأجيال الشابة منهم، سيّما طلاب الجامعات وأساتذتها وقادة الرأي العام والمجتمع المدني، من خارج الكونغرس، يديرون ظهورهم إلى الدولة المتوحّشة، يومؤون إلى مستقبلها المُظلم، ويرفعون الشعار الذي غاب حتّى عن العالم العربي، ونعني به شعار "فلسطين حرّة من البحر إلى النهر".

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي