ناتو إقليمي أم تبعية للوكيل؟

14 يوليو 2022
+ الخط -

تتسارع الاتفاقيات الموقعة بين بعض دول المنطقة والاحتلال الصهيوني، حتى بات وصف العلاقة بينهما تحالفيا رائجاً إعلامياً. كما أثارت تقارير صهيونية ودولية مخاوف من تأطير العلاقة التطبيعية أو التحالفية وتطويرها، عبر تشكيل منظمة أمنية وعسكرية مشتركة، تحاكي، وفق بعضهم، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يعتقدون أن تشكيل ناتو شرق أوسطي مسألة وقت لا أكثر، استناداً إلى تقارير صهيونية ودولية كثيرة.

وقبل الحديث عن هذا "الناتو"، يجب التطرّق إلى تراجع الدور الأميركي في المنطقة، فهو يمثل جزئية ضرورية لفهم المشروع والمسار التطبيعي المعروف باتفاقيات أبراهام، حيث فرض تراجع الدور الأميركي متغيراتٍ اتسمت، في غالبيتها، بالارتجال والتخبّط، أولها على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وثانيها على سياسات دول المنطقة الخارجية، حيث لم تتضح معالم الاستراتيجيات والسياسات الأميركية والإقليمية إلا أخيرا، نتيجة عوامل عديدة، منها تراجع الدور الأميركي بصورة مفاجئة وسريعة، الأمر الذي أربك القيادة السياسية الأميركية ذاتها، ما دفعها إلى الارتجال، وكأنها غير متوافقة فيما بينها على خطّة أميركية واضحة للمرحلة اللاحقة، أي التي تلي تراجع الحضور الأميركي. كما فرضت الموجات الثورية الشعبية ذاتها لاعبا غير متوقع في المنطقة، وأثارت خلافاتٍ عديدة بين دول المنطقة، سيما الدول الأكثر نفوذاً كالسعودية وقطر ومصر والجزائر وإيران وتركيا. كذلك أدّى تراجع الحضور الأميركي إلى زيادة التنافس والصدام بين دول المنطقة، الساعية إلى خلافة الولايات المتحدة، بل جذب هذا التراجع اهتماماً دولياً واسعاً بالمنطقة، سيما صينياً وروسياً، وهو ما جرت مواجهته إقليمياً وأميركياً بسياسيات مستعجلة غير مدروسة، زادت من تعقيد الأوضاع وتداخلها.

تعمل الولايات المتحدة على تفويض الاحتلال بإدارة الملفات الأمنية والعسكرية للمنطقة، ولاحقاً السياسية

إذاً كان تراجع الدور الأميركي عشوائياً من دون مخطّطات محدّدة تضمن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما ظهر في تخبط سياسي وأمني كبير على مستوى الإدارات الأميركية وعلى مستوى دول المنطقة، حتى الفترة الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حيث وضعت إدارته أولى ملامح الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه المنطقة، والتي تعوّل عليها أميركا اليوم من أجل حفظ مصالحها في المنطقة، وربما في العالم أيضاً، على الرغم من تراجع حضورها الأمني والعسكري والسياسي. تمثلت أولى خطوات هذه الاستراتيجية في اتفاقيات أبراهام، ولحقتها إضافة الاحتلال الصهيوني إلى منطقة عمليات القيادة المركزية (سينتكوم)، وصولاً اليوم إلى تعزيز حضور الاحتلال القيادي في المنطقة.

بمعنى آخر، تهدف الاستراتيجية الأميركية الجديدة في منطقتنا الإقليمية إلى الحفاظ على تراجع حضورها العسكري والأمني والسياسي أولاً، بل ربما خفضه لاحقاً، وضمان حفاظها على مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة ثانياً، وتمكينها من استغلال نفوذها في المنطقة، لخدمة مصالحها حول العالم ثالثاً. وذلك عبر تولّي وكيلها في المنطقة إدارة شؤونها، أي الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي تطلب إضافته؛ الاحتلال؛ إلى منطقة عمليات "سينتكوم"، وتعزيز حضوره الأمني والعسكري القيادي والتوجيهي تجاه دول المنطقة، والبداية مع الدول المطبّعة، وهو ما تحققه نسبياً بعض الاتفاقيات الأمنية، لكنه يتطلب بعداً أكبر وأوسع، عبر تشكيل منظمة عسكرية وأمنية إقليمية بقيادة صهيونية، تضم أكبر عدد ممكن من دول المنطقة وأبرزها.

شكل جديد من العلاقات بين الدول، يمكن وصفه بـ"التبعية للوكيل"

من هنا يمكن فهم حقيقة "الناتو الشرق الأوسطي" المزعوم، كما يمكن فهم أهم عوائق تشكيله، فمن ناحية أولى لا تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف عسكري وأمني بالمعنى الصحيح للكلمة، بقدر ما تعمل على تفويض الاحتلال بإدارة الملفّات الأمنية والعسكرية للمنطقة، ولاحقاً السياسية، وكيلا مفوّضا عنها، نظراً إلى انشغالها بمواقع وملفات أخرى. لذا، تسعى إلى بناء منظمة أمنية وعسكرية جديدة بقيادة الاحتلال الملحق بقيادة "سينتكوم" مسبقاً، حيث يجري تعزيز قيادة الاحتلال عبر اتفاقيات التطبيع وشروط بيع السلاح الأميركي لدول المنطقة، التي باتت تتضمّن شرط المراقبة والتحكّم الصهيوني بمكان استخدامه وزمانه وكيفيته. إذاً تحافظ هذه المنظمة المزمع إنشاؤها على تبعية دول المنطقة، مع تحوّل بسيط في شكل التبعية، من تبعية مباشرة إلى تبعية غير مباشرة عبر الوكيل، وكأننا أمام شكل جديد من العلاقات بين دول، يمكن وصفه بـ"التبعية للوكيل". من هنا، يعتقد كاتب المقالة أن وصف اتفاقيات إبراهيم التطبيعية بالاتفاقيات التحالفية غير دقيق بصورة كلية، فالاتفاقيات تعبير عن تحول شكل تبعية هذه الدول من شكلها القديم التابع لدول المركز المهيمنة (أميركا) إلى تبعية لوكيل الدولة المهيمنة، أي الاحتلال الصهيوني.

رغم زيادة دور الاحتلال الإسرائيلي إقليمياً، إلا أن خلافته الدور الأميركي مسألة معقدة وصعبة التحقق في المدى المنظور

أما المعوقات البارزة التي تعيق بناء (وإعلان) قيادة الاحتلال منظمة أمنية وعسكرية تضبط دول المنطقة وتتحكّم في قراراتها العسكرية والأمنية والسياسية، فتكمن في تحفظ بعض دول الإقليم الفاعلة على هذا الشكل من العلاقة، وإنْ لم تكن متحفظة على التطبيع مع الاحتلال، مثل السعودية، أو كانت مطبّعة بالأصل كمصر. ويبدو من الاتفاقيات والمعاهدات الإماراتية - الصهيونية، مدى مسارعة الإمارات إلى تجاوز التطبيع نحو إقرار تبعيتها للاحتلال سياسياً وعسكرياً وأمنياً، بعكس مصر والسعودية اللتين تتحفظان على هذا الشكل من التبعية. كما تتضمن لائحة الدول الرافضة لعب الاحتلال دور الولايات المتحدة في المنطقة كلا من تركيا وإيران، وهما من الدول المؤثرة في المنطقة، وتمتلكان أوراق قوة عديدة. لذا، ونظرا إلى حالة الرفض الإقليمي، يبدو المشروع الأميركي، أو ربما الصهيوني، مكبلاً وعاجزاً، رغم قبول الإمارات والبحرين والمغرب له.

قبل الختام؛ يجب التذكير بأن مفهوم التحالف بين دول المنطقة والاحتلال غير مطروح أميركياً وصهيونياً، بل يمكن الجزم بمعارضتهما له، فالتحالف من أشكال العمل المشترك بين أطرافٍ متساوية أو شبه متساوية، يتيح حل المشكلات بين أطرافه بالحوار والتفاهم، بعيداً عن لغة المواجهة والصدام وأسلوبهما، وهو ما يتعارض مع مصلحة أميركا والاحتلال، اللذين يغذّيان الخلافات بين دول المنطقة، ويحرضان الدول بعضها على بعض. في النهاية، ورغم زيادة دور الاحتلال إقليمياً، إلا أن خلافته الدور الأميركي مسألة معقدة وصعبة التحقّق في المدى المنظور، وهو ما يُضعف الاستراتيجية الأميركية، ويجعل منها رهاناً محفوفاً بمخاطر عديدة، قد تنقلب إلى كوارث على أميركا والاحتلال والدول التابعة على حد سواء.