عن تخبّطات الاحتلال
يجمع كلّ قادة دولة الاحتلال الحاليين، وقواه السياسية، على هدف القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس، بما يتضمّن القضاء على أيّ إمكانيةٍ لإدارتها قطاع غزّة مستقبلاً، أو في ما يعرف إعلامياً بـ" اليوم التالي". يخفي هذا الإجماع القديم الجديد في طياته خلافاتٍ عميقةً قد تفتح الباب مستقبلاً على صراعاتٍ سياسيةٍ ربّما تتجاوز الأطر السياسية، لتصل إلى صداماتٍ اجتماعيةٍ وقانونيةٍ بين حينٍ وآخر، كما حصل في الآونة الأخيرة في مراسم التأبين الرسمية لإحياء ذكرى قتلى معارك الاحتلال وحروبه في يوم الاثنين الماضي (13 إبريل/ نيسان).
واقعياً، لطالما كان الخلاف السياسي الداخلي الصهيوني عميقاً بشأن الأسلوب والآليات والأولويّات، في مقابل إجماعٍ عامّ على الأهداف المركزية، وفي مقدمتها القضاء على المقاومة الفلسطينية بجميع أسمائها وأشكالها وأنماطها، وأُسس دولة الاحتلال. لكن، ورغم الخلافات العميقة بشأن الأسلوب الأمثل صهيونياً، لم تخرج تلك الخلافات من دائرة النقاش السياسي والتراشق الإعلامي، إلا في مناسباتٍ معدودةٍ، كما في اغتيال إسحاق رابين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، لكن، حتّى تلك المناسبات المعدودة كانت ذات طبيعةٍ فرديةٍ أو فئويةٍ ضيقةٍ، لا تمثّل تهديداً للاستقرار والسلم الداخلي، وفقاً لمصطلحات الاحتلال ذاته. أمّا اليوم فقد غدت الخلافات على الأسلوب والطريقة ستاراً يحجب خلافاتٍ أعمق بكثيرٍ، تشمل طبيعة الدولة، والنظام القانوني، والمرجعية، والحدود، والدور أو الرسالة، وهي خلافاتٌ تعود بالاحتلال إلى بداياته الأولى، لكن، بطريقةٍ أكثر حدّةً وعنفاً وتوتراً.
تعتقد تيّارات الصهيونية الدينية أن الأوان قد حان لاستكمال مشيئة الله، عبر بسط السيطرة الصهيونية على كامل فلسطين التاريخية
فتح "طوفان الأقصى" باب تلك الخلافات على مصراعيه، رغم ما وُصف في الإعلام الصهيوني في حينه بـ"الاجماع السياسي والمجتمعي"، الذي استغله كثيراً رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي نجح في جعل القضاء على فصائل المقاومة، وتحديداً حركة حماس، الهدف الأوحد للمرحلة الراهنة، ثمّ أضاف هدفاً ثانوياً آخر هو استعادة الأسرى والمُعتقَلين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، تحت ضغط عائلات الأسرى والمُختطَفين، وبعض الأطراف السياسية الداخلية والخارجية، لكنّه أصرّ دائماً على أولوية القضاء على "حماس"، وروّج ذلك باعتباره بوابة استعادة الأسرى الوحيدة. تهرّب نتنياهو كثيراً من نقاش "اليوم التالي"، لأنّه يدرك حجم الصدع الصهيوني الداخلي بشأنه، أو بالأصحّ، بشأن مسائل عديدةٍ جوهريةٍ مرتبطةٍ بهذا التصوّر؛ بين تصوّرات تيّارات الصهيونية الدينية المطالبة بضرورة إعادة الاستيطان والمستوطنات إلى قطاع غزّة، بعد تهجير أو قتل كلّ أو معظم سكانه من جهةٍ، ودعوات محاكاة تجربة سلطة رام الله في قطاع غزّة، بعد قضم مزيدٍ من أراضي القطاع من ناحية ثانيةٍ، وتقسيم القطاع إلى قطاعاتٍ صغيرةٍ، لكلّ منها سلطةٌ إداريةٌ غير أمنيةٍ، تخضع كلّها لسلطة الاحتلال الأمنية المباشرة من ناحيةٍ ثالثةٍ، وأخيراً، دعوات إدارة القطاع عبر وسطاء خارجيين مضموني الولاء للاحتلال، منهم بعض نظم الإقليم، بمشاركةٍ أميركيةٍ وأوروبيةٍ، أو عبر شركاتٍ أمنيةٍ خاصّةٍ، أميركيةٍ غالباً.
تباين مخطّطات "اليوم التالي" هو انعكاسٌ لتباين الرؤى الصهيونية بشأن كلّ شيءٍ، فتيّارات الصهيونية الدينية تعتقد أن الأوان قد حان لاستكمال مشيئة الله، عبر بسط السيطرة الصهيونية على كامل فلسطين التاريخية؛ بل تتعداها، الأمر الذي يتطلّب، وفقاً لهم، مرجعيةً دينيةً يهوديةً متزمتةً لكلّ مؤسّسات الاحتلال القضائية والإعلامية والسياسية والعسكرية. في حين تسعى قوى أو تيّارات اليمين الأقلّ تزمتاً إلى سيطرةٍ أمنيةٍ صهيونيةٍ غير مباشرةٍ، عبر وكلائها وحلفائها الإقليميين والدوليين، أو عبر شركاتٍ أمنيةٍ خاصّةٍ، الأمر الذي يعكس رؤيتها نحو مؤسّسات الاحتلال ذاته، فضلاً عن دوره إقليمياً ودولياً، إذ تعتقد هذه التيّارات أن جوهر بنية الاحتلال الدينية يجب أن لا يتناقض مع دوره في خدمة النظام الإمبريالي، الأميركي تحديداً، كما أنّ هذا الدور يجب أن لا يتناقض مع جوهر الاحتلال الديني، لذا فهي تتمسّك باستقلالية دوائر السلطات الأربع، الأمنية والسياسية والقضائية والإعلامية، مع دفعها نحو اليمين المُتطرّف رويداً وريداً، معتقدةً أنّ السيطرة الدينية المتزمتة المُتدرّجة عليها سوف تحافظ على دور الاحتلال دولياً وإقليمياً من ناحية، كما سوف تحافظ على تماسك حاضنته الاجتماعية من ناحيةٍ ثانيةٍ.
بات نقاش "اليوم التالي" نقاشاً مفتوحاً حول مجمل المشروع الصهيوني ومستقبله، وحدوده، ودوره، وطبيعته، بل حتّى استمراريته
أما التيّار الليبرالي اليميني، المعروف إعلامياً بالتيّار العلماني، فيسعى إلى محاكاة تجربة سلطة رام الله في قطاع غزّة، عبر مساعدتها في بسط نفوذها فيه، أو عبر سلطاتٍ محلّيةٍ جديدةٍ، معتبراً أن قبول الصهيونية بكيان فلسطيني ما، أقل من دولةٍ وأكثر من بلديةٍ، ضرورةٌ من ضرورات الحفاظ على علاقات الاحتلال الدولية، كما للحفاظ على صورته الدولية، باعتباره امتداداً للحضارة الغربية، من هنا يتأتى تمسّكه ببعض مظاهر الدولة العلمانية، مثل حقوق المثليين والمرأة، واستقلالية السلطات الأربع، مع الحفاظ على طابع الدولة الدينية والعنصرية، كما جسده قانون القومية؛ إذ يعتبر هذا التيّار علاقات الاحتلال الخارجية، وتحديداً علاقته بأميركا، ودوره في خدمة مصالحها، ومصالح النظام الإمبريالي كاملاً، جزءاً مهماً من بنية الاحتلال ودوره ومستقبله، وضماناً شبه وحيدٍ لاستمراره أيضاً. اللافت للنظر اليوم؛ أنّ مجمل هذه التيّارات ممثّلة في حكومة الاحتلال، حكومة الطوارئ، كما في مجلس الحرب، ما يجعل من نقاش خطة الاحتلال لـ"اليوم التالي" أمراً معقداً وخطيراً، يحمل في طياته بذور انقسامٍ عميقٍ يصعب جبره سريعاً. لذا يرفض نتنياهو خوض هذا النقاش، ويتمسّك بشعار الإجماع الوحيد "القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية"، حتّى لو أدى ذلك إلى تخبطٍ في الخطط العملياتية، وفشلٍ استخباريٍّ، وخسائر ميدانيةٍ كان يمكن تلافيها، وتبدلٍ في مكانة الاحتلال العالمية، خصوصاً على الصعيد الشعبي، ومخاطر تبدلٍ في مكانة الاحتلال دولياً، حتّى مع الولايات المتّحدة ذاتها، رغم صعوبة ذلك قريباً، لكنه احتمالٌ واردٌ مستقبلاً.
كما يدرك نتنياهو جيداً نجاح "طوفان الأقصى" في تحويل القضية الفلسطينية إلى قضيةٍ مركزيةٍ في الداخل الصهيوني، كما حول العالم أجمع، لذا، بات نقاش "اليوم التالي" نقاشاً مفتوحاً حول مجمل المشروع الصهيوني ومستقبله، وحدوده، ودوره، وطبيعته، بل حتّى استمراريته. كذلك يزيد صمود الشعب الفلسطيني، وبسالة مقاومته من صعوبة الموقف على نتنياهو بدايةً، وعلى شركائه الداخليين، كما خصومه، وصولاً إلى حلفائه الذين يحثّون الخطى إلى جبر الضرر ما أمكن.