موقعة ألبرتو مانغويل التونسية

25 فبراير 2020
+ الخط -
هَزَم وزير الشؤون الثقافية التونسي، محمد زين العابدين، نفسَه، عندما افتعل قرارا عجيبا، وسوّغه بمبرّراتٍ يعرف هو قبل غيره أنها غير صحيحة، وذلك لمّا ألغى موافقةً مسبقةً من الوزارة على تنظيم لقاءٍ مع الكاتب الأرجنتيني الكندي (يوصف بالعالمي) ألبرتو مانغويل (1948)، وإحالة مطلبٍ بالموافقة تقدّم به "بيت الرواية"، وهو فضاءٌ يتبع الوزارة، "على أنظار وزير الشؤون الثقافية للحكومة المقبلة"، بحسب مخاطبةٍ رسميةٍ منه، ردّ عليها مدير "بيت الرواية" ومؤسّسه، الروائي كمال الرياحي، بمخاطبةٍ أكّد فيها الرفض المطلق لهذا القرار الذي طالب الوزارة بالتراجع عنه، وتأمين بطاقات الطيران للكاتب الشهير لتأمين وصوله لتنظيم اللقاء في موعده يوم السبت الماضي (22 فبراير/ شباط الحالي). هَزَمَ الوزير نفسَه لمّا ظنّ أنه زاول حقا روتينيا، وأن على المثقفين التونسيين الذين ينتظرون هذا النشاط، المُعلن عنه منذ أسابيع، أن يمتثلوا.
كان كمال الرياحي محقّا جدا لمّا كتب أن فعلة الوزير تسيء إلى تونس وصورتِها في العالم، ولمّا أخبر الأخير بهذه الحقيقة. وجديرٌ بالتقدير والإعجاب تحرّك المثقفين التونسيين، لمّا تشكلت خليةٌ منهم، وبادروا إلى تأمين كلفة استقبال صاحب "يوميات القراءة"، وبطاقات سفرِه إلى بلدهم، من إمكاناتهم الخاصة، وإعلان ترتيب أن يكون اللقاء المقرّر معه في المكتبة الوطنية، تضامنا منها مع "بيت الرواية"، وهو ما كان. وإذا صحّ ما شاع، همسا وتخمينا، أن الوزير افتعل سببَ عدم تنسيق "بيت الرواية" مع الوزارة بشأن هذا النشاط لإخفاء سببٍ مُضمر، موجزُه أن والد الكاتب العالمي كان سفيرا للأرجنتين في إسرائيل (قبل أزيد من ستة عقود)، إذا صحّ ذلك، فإن تمييعا مرذولا يُحدِثُه هذا التفكير بشـأن مبدئية رفض التطبيع مع دولة الاحتلال، فالكاتب المُستضاف مشهورٌ بمناصرته حقوق الشعب الفلسطيني، ولم يُعرف عنه أي إسناد لإسرائيل، وهو صاحب مواقف معلنةٍ ضد الدكتاتوريات. وكان مهما منه أنه، في اللقاء التونسي الذي انعقد معه، بحضورٍ كبيرٍ وتغطيةٍ إعلاميةٍ واسعة، جاء على ذلك، في قوله إن لا أحد يتألم مثل الشعب الفلسطيني اليوم الذي اقتُلع من أرضه، وأجبر على مغادرة ديارِه نحو المَهاجر. وأضاف إنه على الرغم من وجود أدباء وسياسيين يتناولون هذا التشريد الذي يعانيه الفلسطينيون في كتاباتهم وخطاباتهم، لا توجد حكومة تعمل فعليا على إيجاد الحلول المناسبة لهم، وموجزها إعادة أراضيهم المسلوبة إليهم. ووصف محمود درويش بأنه من أعظم شعراء القرن العشرين. واستطرد إن على المفكرين في العالم أن يكونوا فاعلين، غير سلبيين، تجاه اللاعدالة الدولية، وأن يتّخذوا موقفا داعما للقضية الفلسطينية.
من المهم حماية قضية المواجهة الواجبة ضد التطبيع مع إسرائيل من العبث والخلط وقلّة الاتزان، ولا يجوز أن تكون "رُهابا"، ولا سببا لافتعال معارك بائسة. ومن المهم كذلك أن نعرف أن تونس الراهنة ليست بلدا يقول فيه الوزير الفلاني أو المسؤول العلاني ما يقول وما على الناس إلا الطاعة. لا، كان الوزير زين العابدين في غنىً عن الموضع الذي ورّط نفسه فيه، وإن كان لفعلته البائسة مردودُها الإيجابي، عندما اختار مثقفون تونسيون الوفاء لقيمة المعرفة، وزاولوا فعلا مؤسّسيا في مواجهة سلطةٍ كاذبة، فكان لقاءُ جمهورٍ من أهل الأدب وقرّائه وذواقيه مع "الرجل المكتبة"، كما يوصف ألبرتو مانغويل، حواريا مُبهجا، سمع فيه الحضور، ومن تابعوا المناسبة في "السوشيال ميديا"، أن القراءة تنمّي الشعور بالانتساب إلى الإنسانية جمعاء، وإن الانتماءات المبنية على الهوية والجغرافيا والمذهب تعيق التواصل بين الشعوب. وقد قال الضيف، من بين كثيرٍ بالغ الرقيّ قاله، إن بعض الحكومات تخشى القراءة العميقة للنصوص الأدبية التي تُنتج شعوبا مفكّرة وذكية، ولذلك تعتمد إرساء منظوماتٍ دراسيةٍ وتربويةٍ تقوم على تكريس "الغباء" لدى الأطفال، لجعلهم يفقدون ثقتهم في ذكائهم، وكذلك القبول بالخطاب الدعائي الاستهلاكي الذي يخنق الفكر والخيال، وبذلك تتحوّل المدارس إلى تجمعات تدريبية تعد أجيالا من العبيد، للعمل في الشركات والمصانع.
ألبرتو مانغويل كاتبٌ وقارئ، مولعٌ بالتفاصيل، مثقفٌ واسع المعرفة.. يرى للأدب العربي أهميةً استثنائية. كان حضوره إلى تونس موقعةً ثقافيةً، وجاء حديثُه فيها سببا مضافا لقراءته أكثر وأكثر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.