موجاتُ الربيع السوري وقطعة الدومينو الأخيرة

30 مايو 2023
+ الخط -

تزامناً مع مشاركة بشار الأسد في القمّة العربية في جدّة أخيرا، لا بدّ يباغتنا السؤال الإشكالي: هل كان ربيعُ عام 2011 الجوابَ الصحيح لمشكلات السوريين؟ يتضمّن هذا السؤال المخاتل تأكيدَ ما يبدو أنه يسعى إلى نفيه، فمشكلته تكمن في أنه يندرج في سياق لوم الشعوب، ونتناسى أنّ الثورات، الإرهاب، الفوضى، الحروب الأهلية، الطائفية هي مخرجاتٌ طبيعيةٌ للأنظمة القمعية. وللخروج من دائرة القهر والتشكّي في ما يخصّ تجاوز الأسد كلّ الخطوط الحمر من دون عقاب، ومن منظور البراغماتية العملية التي فضحت أغوار أروقة السياسة المُعتمة أوشكت القمّة العربية أن تمنح "فخامة الرئيس القاتل" المبرّرات وصكوك البراءة، بينما يرى متابعون كثيرون أنّ العالم اليوم أمام لحظة انتكاسة كبيرة في المشهد الأخلاقي العربي، فالصورة التي أخرجت الأسد من القمّة لا شكّ أعطته "نصراً دبلوماسياً غير مبرّر"، ليثبت الأخير فكرة "اللاجدوى" من سلطةٍ بإمكانها أن تصنع من أبلهٍ متوحد ديكتاتوراً يتلاعب بمصائر الناس وأرواحهم. هل هي لوثة الكرسي التي قال عنها سعد الله ونوس في مسرحيته "الملك هو الملك" عبارته الشهيرة: "أعطني تاجاً وصولجاناً أعطِك ملكاً"؟ ولنكن أكثر دقة.. لم ينتج حضور الأسد القمة أيّ حلول مجدية، بل أكسبته هامشاً جديداً للمناورة في مواضيع شتّى، على الرغم من وصفه غير مرّة بالجثة المتفسّخة، لا تفوح منها سوى الشرور الكريهة، ولعلّ الكبتاغون أحد تجلياتها، إذ أمكن لهذا الكابوس الجاثم على صدر البلاد منذ عقود أن يحوّلها أخيراً إلى بقعة جغرافية منهكة ومستباحة، شمالها لتركيا، جنوبها لإيران وشرقها لأميركا، غربها لروسيا، والبحر لأبنائها يغرقون فيه؟

شهدت سورية أكثر من ربيع في ظلّ الأسدين، وكلها انتهت إلى واقع مؤلم

تفيدنا الإشارة بأن السفير السعودي السابق في الأمم المتحدة عبد الله المعلمي ألقى في ديسمبر/ كانون الأول 2021، خطابه في الجمعية العامة بعنوان "لا تصدّقوهم"، مستهدفاً رواية النظام السوري و"زعيمه الذي يقف فوق هرمٍ من جماجم الأبرياء"، على حدّ تعبيره. وبينما عكست كلماته حينذاك الموقف السياسي لبلاده بشأن دمشق، تُمثل قمّة جدّة انقلاباً كلياً على السابق، وسط تسارع التحوّلات الدبلوماسية على الساحة العربية إثر إعلان اتفاق بين الرياض وطهران. في السياق، جاء في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2019 أنه وعلى الرغم من عشرات المؤتمرات والاتفاقيات والهدنات لإنهاء المأساة السورية، إلا أنّ ما شهدته البلاد على مدار سنوات الحرب أظهر أنّ "الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان هي القاعدة وليست الاستثناء". يؤكّد هذه الحقيقة المؤلمة توجيه الإمارات دعوة إلى بشّار الأسد لحضور قمة المناخ "كوب 28" في دبي، المقرّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وسيكون هذا أول ظهور للأسد في أول مؤتمر عالمي بعد 2011، والغاية المبيّتة استغلال هذه التظاهرة لإعادة حكومته منتهية الصلاحية إلى الساحة الدولية، من دون أيّ محاولة لضمان المساءلة عن انتهاكاتها الوحشية.
جدير ذكره أنّ سورية شهدت أكثر من ربيع في ظلّ الأسدين، وكلها انتهت إلى واقع مؤلم، فالإضراب العام الذي أعلنته النقابات المهنية عام 1980 فشل لسببين: عدم وقوف التجار معه، ومحاولة حركة الإخوان المسلمين مصادرة الحراك لتجييره لمصلحتها. يومها اهتزّ الحكم، وفقدَ حافظ الأسد أعصابه، وأخذ يلقي الخطابات الرنانة تباعاً، قبل أن يضرب الحراك بقبضةٍ من حديد. تالياً، جاءت الاغتيالات التي كانت الطليعة المقاتلة تنفذها، فرصة ذهبية للأسد للتخلص من خصومه السياسيين، فدخلت المعارضة في غيبوبة نتيجة اعتقال عديد من رموزها الوطنية في سجون النظام. هكذا ابتعد حلم التغيير، لأنّ الأسد الأب بنى نظاماً لا يمكن إصلاحه، كما قال جورج طرابيشي، إلا بإلغاء نفسه بنفسه. أما الربيع الثاني فجاء بعد خطاب القسم الذي استبشر به السوريون، ولكنه كان ربيعاً قصيراً وانحصر بالمثقّفين، ولم يصل إلى عامّة الناس، واغتاله النظام وحرسه القديم. وفي عام 2005 شهدت سورية "شبه ربيع" حيث كان إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، لكنّ القوى المضادّة كانت رافضة أيّ عملية إصلاح طرحها الإعلان. ومن المؤسف القول إن هذا الإعلان بعد عام 2011 لم يستطع أن يشكّل قيادة مؤثرة رغم تعويل قوى ديمقراطية عديدة عليه.

لم يعد هناك هامشٌ متاح للديكتاتور السوري كي يتصرّف بغباء أو سذاجة سياسية

بالتساوق مع ما تقدّم، يعلم نظام الأسد ضمنياً أنه على عتبة الاستبدال بأيّ وقت، فالأولويات الروسية لم تعد في سورية، وإيران التي تحاول بناء مشروع أيديولوجي في المنطقة تعاني، هي الأخرى، من مقاطعة دولية خانقة، ومن أزمات داخلية ملتهبة، كما أنها لا تتمتّع بالقوة الكافية لمواجهة أيّ مشروع تتوافق عليه روسيا والجارة تركيا التي أعادت الأسد إلى دائرة الاهتمام، ولن يكون هذا من دون مقابل بالتأكيد. وعليه، لم يعد هناك هامشٌ متاح للديكتاتور السوري كي يتصرّف بغباء أو سذاجة سياسية، وقد كان بإمكانه استغلال الفرص التاريخية لأخذ البلاد إلى الاستقرار السياسي والأمني، وتوحيد السوريين ووضعهم في مواجهة استحقاقات إعادة بناء الدولة والنظام سياسياً، وهي الورقة التي لم يُجِد استعمالها لإحراج العالم من حوله، وإجباره على التعايش مع وقائع إصلاحية سياسية جديدة، بمعزلٍ عن كلّ المؤامرات التي يقول إنها تُساق دولياً وإقليمياً ضده. ويعلم أيضاً أنّ الانتفاضات الشعبية أطاحت ديكتاتوريات متجذّرة حكمت عقودا وبقبضةٍ فولاذية. لذا نادراً ما مات طاغية على سرير نومه بشكل هادئ وبدون زوابع، فموته دائماً مستفزّ، فُرجوي، ميلودرامي، ومليء بالإثارة ولغة الشماتة. يعزّز مخاوفه أنّ وعي الشعب السوري بات مستنداً إلى إدراك جمعي بأنّ طاغية دمشق لم يعد في أفضل أحواله، وأنّ التغيير يمكن أن يحدث من الداخل، وليس فقط نتيجة تحولاتٍ في الخريطة الجيوسياسية العالمية. 

السيولة الفائقة للمراحل العنفية الانتقالية للثورة السورية تجعل مهمة إصلاحها صعبة للغاية

في ضوء هذه السياقات، السيولة الفائقة للمراحل العنفية الانتقالية للثورة السورية تجعل مهمة إصلاحها صعبة للغاية، يزيد الأمر تعقيداً أن "الحمّى المعرفية" لهذه الانتفاضة كانت لها محاذيرها بالتأكيد، عندما تبنّت أفكاراً مشوّهة وقدّمتها "حقائق تاريخية" و"بداهاتٍ" لا مجالَ لنقاشها، ما يجعل حلم السوري في التحرّر وبناء الدولة الديمقراطية يتحوّل إلى النقيض تماماً. حلمٌ مشروعٌ لطالما تصوّره نظام الأسد بمثابة حدثٍ طارئ من خارج البنية. بالتالي، يمكن الجزم باطمئنان أنه، على الرغم من فشل الربيع السوري الأخير (مرحلياً) في اقتلاع نظام الأسد، والذي أدّى إلى ظهور سردياتٍ مليئة بالأوهام والتخوين، متزامنة مع المظالم الأقلوية والتعبئة الطائفية، إلا أنه يمكن اعتباره إرهاصاتٍ مبدئية للتغيير الأكبر، لأنه ببساطة ليس نتاجاً لسياسات دولية ولا تدخّلات إقليمية، بل هو مجموعة من الانفجارات الداخلية الناتجة عن تراكماتٍ ثقيلةٍ من الاستبداد السياسي والتمييز الاجتماعي والتجهيل المعرفي وسوء الأوضاع الاقتصادية، والذي عبّر عن حالة انفصالٍ مهوّل بين أجيال متمردة وبين نخب تجمّدت أفكارها، وصارت تنظّر لاستمرار الواقع البائس تحت مزاعم شتّى، ثبت وهنها تحت أقدام الشباب المتظاهرين في ميادين الحرية. وكلّ ما مضى من إخفاقات يأتي في طور التجربة والتعلّم، لإدراك أولويات المرحلة المقبلة، بغية إسقاط قطعة الدومينو الأخيرة داخل رقعة الاستبداد العربي، إذ تؤكد القراءة الاستشرافية للمعطيات الحالية أنّ موجة تغيير جارف قادمة ستجتاح البلاد، لا محالة، وعلى المستويات كافة.