من يكفكف دموع دمشق؟

15 فبراير 2023
+ الخط -

من، يا تُرى، أوْلى من العرب في أن يكفكف دموع دمشق، وهي تعاني، هذه المرّة، من أهوال غضب الطبيعة وجبروتها، بعدما عانت مديدا من ظلم البشر الذين حكموها وتحكّموا فيها، ولا تملك سوى أن تشدّ على جرحها الجديد صابرة محتسبة، مودّعة الآلاف من أبنائها الذين ساروا على درب الآلآم عقودا، واختبروا كل نكبات الدهر وصروفه، وجاء الزلزال المهول كي يمنحهم رقدتهم الأخيرة.

من، يا تُرى، يغيث سورية التي كانت زمانا "قلب العروبة النابض"، ومن يعيد لها عروبتها، ويعيدها إلى العروبة غير العرب أنفسهم؟ هل كفّت جامعة الدول العربية عن أن تحنّ على أقطارها، وتجبر قلوب أبنائها وقت المصائب، وهي لم ترَ في استحقاق سورية، وقت محنة الزلزال، سوى بيانٍ في بضعة أسطر من الناطق باسم الأمين العام، وليس من الأمين العام نفسه، يدعو فيه الدول إلى تنظيم حملاتٍ لإغاثة المنكوبين السوريين، وهو لم يعرف بعد أن الأقربين أوْلى بنجدة أهلهم من غيرهم، ألم يكن بإمكان الجامعة أن تنظّم حملتها الخاصة بها وهي التي تقيم على عرش 23 دولة، أما آن لها أن تعقد اجتماعا عاجلا لممثلي دولها لإقرار مبادرةٍ تحمل طابعا إنسانيا تستثني المنكوبين بالزلزال من مناورات السياسيين ومراوغات الدول واختلافات الحكّام؟ أم أنها تريد منا أن نتأكّد، للمرّة الألف، أنها "ليست جامعة وليست عربية"، وهذا ما قاله لنا مبكّرا أحمد الشقيري مساعد الأمين العام للجامعة في خمسينيات القرن الراحل.

لماذا تردّد بعض العرب في نجدة أشقائهم، في حين أن الأبعدين سارعوا مستجيبين، مع أن منهم من عانى ويعاني من قلة الزاد وبُعد الطريق؟ لماذا آثر بعض العرب أن يضعوا فاصلا بين السوريين الذين وضعتهم أقدارٌ شرّيرة تحت رحمة حاكمٍ يشترط أن لا يصل الغذاء إلى أبناء جلدته إلا من خلال يديه، وبين أشقّائهم الذين فرضت عليهم أقدار ليست أقلّ شرّا أن يخضعوا لهيمنة فصائل ومليشيات ودول تحكُمهم وتتحكّم حتى في خصوصياتهم؟

لماذا يريد بعضهم أن تتحول سورية إلى سوق للمساومات والمناورات السياسية، في حين أن مواجهة الزلزال ومساعدة المنكوبين قضية إنسانية خالصة، لا تقبل المساومة أو المناورة، كما لا تقبل التأجيل أو المراهنة على الزمن؟ كيف يسمح بعضهم في إضاعة وقته في مناقشة قضايا العقوبات والحدود والمعابر وقرارات مجلس الأمن، في حين أن الراقدين تحت أكوام الصخور والأحجار الخرسانية الذين يتنفسّون التراب منتظرين الموت لا يملكون رفاهية الحصول على جرعة ماء أو نسمة هواء؟ هل سيكتب التاريخ أن أميركا التي اعتادت أن تذرف الدموع على ضحاياها كانت أرحم من بعض الأشقاء عندما رفعت العقوبات، وإنْ لمدّة محدودة، لتسهيل وصول المساعدات إلى المنكوبين؟

لماذا يريد بعضهم أن تتحول سورية إلى سوق للمساومات والمناورات السياسية؟

هل سيقول التاريخ إن حاكما عربيا طاف بين أبناء جلدته الذين نُكبوا بنائبةٍ ليس ثمّة أشد هولا منها، وهو يعاين ضحاياه مبتسما ملء شدقيه، ومن دون أن يرفّ له جفن، وكأن لم يكن هناك ما يثير شعوره بالحزن أو الوجع؟

أسئلة مرّة تلد أسئلة أكثر مرارة: من ينقذ سورية من تبعات زلازل السياسة التي تعرّضت لها عقودا، ومن يعيد لها وحدتها الجغرافية، ومن يضمّد جراح أهلها ويعينهم على تخطّي المتاعب والصعاب؟ هل يدرك العرب أن لا بد من اجتراح معادلةٍ قد تبدو صعبة يمكن من خلالها ضمان الحرية والديمقراطية وسيادة القانون لكل السوريين، بلا دكتاتورية، وبدون أحقاد، معادلة تعيد سورية إلى العروبة، وتعيد العروبة إلى سورية؟ لكن ... من يضمن أن الحاكم يرضى بأن يتعالى على الذات، ويتنازل عن سلطته الخرافية، ويعتذر عن تسلّطه وبطشه ليعود مواطنا كما كان؟ ومن يضمن أن من تمرّد عليه سوف يُلقي سلاحه، ويجنح إلى السلم، ويرضى بحكم الضرورة الملجئة؟ وهل ستتوفر القناعة لدى الغرباء المهيمنين على المشهد، من أميركيين وروس وإيرانيين وأتراك وآخرين بأن يأخذوا طريقهم في رحلة إيابٍ تعيدهم إلى بلدانهم من دون أرباح؟

تلك مجرّد أضغاث أحلام تراودنا ونحن خارج المشهد، وعقد السياسة لا تجد حلولها بالسهولة التي نتصوّر، وفي عصرنا الحاضر لن تحلّ القضايا الشائكة الا بإرادة الأقوياء، و"العالم، كما نظر فيلسوف أميركا نعوم تشومسكي، تحكُمه بديهية ثيو سيديس، القويّ يفعل ما يريد، والضعيف يعاني كما يجب".

وليس أمامنا اذن، نحن العرب، سوى أن نداري ضعفنا، وأن نعاني كما يجب. .. هكذا هي السياسة.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"