من يخاف جماهير كرة القدم؟
بينما كان استوديو قناة بي إن سبورتس يعلن رقمًا قياسيًا لحضور الجمهور في مباراة الأرجنتين والمكسيك بمونديال قطر، كنت أطالع هذا الخبر في الصحافة المصرية "أنهى رجال الأمن استعدادهم لتأمين مباراة الأهلي والمقاولون في الخامسة مساء اليوم، الأحد، باستاد الأهلي والسلام، ضمن منافسات دور الثمانية لكأس مصر. وشكلت الأطقم الأمنية للمجموعة الأفريقية غرف عمليات لتأمين المباراة، ودخول الجماهير وطاقم التحكيم وممرّات اللاعبين".
العدد المسموح به للحضور في المباراة التي استعدت لها "الأطقم الأمنية للمجموعة الأفريقية" هو ثلاثة آلاف مشجّع في دولة تعداد سكانها فاق المائة مليون نسمة، أما العدد في المباراة المونديالية في قطر، التي عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة، فقد اقترب من سبعين ألف مشجّع لمباراة واحدة.
في اليوم التالي، أمس، كانت مدرّجات ملعب الثمامة في الدوحة أشبه بحديقة من الزهور الملوّنة بالأحمر والأخضر، في لوحة جماهيرية بديعة رسمها حضور مباراة المغرب ضد بلجيكا، استمتعوا بمشاهدة المباراة ثم خرجوا عائدين إلى أماكن إقامتهم أو الأسواق وساحات التنزّه في انسيابية هائلة، كأنهم لم يكونوا عشرات الآلاف من البشر، بل فقط مئات من الحضور.
متعة كرة القدم وفاكهتها الحقيقية هي الجماهير، التي لا يقلّ إبداعها عما يقدّمه اللاعبون في المستطيل الأخضر. لذلك لا يمكن الحديث عن امتياز أو تفوّق في إقامة حدث رياضي كبير وإدارته من دون وضع الجماهير، حضورًا ومشاركة، في الاعتبار وحدة قياس ومسطرة للتقييم. وبهذا المعيار، يمكن القول إن مونديال الدوحة ضرب المثل الأروع في احترام أصحاب اللعبة الحقيقيين، وهم الجماهير، فلم تخف من حضورهم بكثافة، أو تعتبرهم مصدر خطر أو تهديد أمني، فكانت المحصّلة أنها انتصرت في معركة حضارية من الطراز الأول، وقدّمت النموذج في احترام الإنسان، الفرد والمجموع، فبادلها احترامًا باحترام وحبّا بحب.
فقط في البلاد المنكوبة بالطغيان والاستبداد يحتقرون الجماهير ويخشون حضورها ويعتبرون تجمّعها شرًا مستطيرًا، تعلن له حالة الاستنفار القصوى، إن سمحت تحت ضغط أو حاجة من حوائج البروباغاندا السياسية، بحضور مئات أو آلاف منهم، لكنها، في معظم الأحوال، تمنعهم من الحضور، كما هو حاصل في مصر منذ أكثر من عشر سنوات، حيث تقام المباريات من دون مشاركة الطرف الأصيل فيها، وهو جمهور اللعبة، خشية أن يهتف للحرية أو يرفع علمًا لفلسطين، أو يذكر ثورةً أو شهداء لها.
مؤسفٌ أنه منذ ثماني سنوات والشعار الباقي من الوجود الجماهيري في مباراة لكرة القدم المصرية هو"افتح بنموت"، ذلك الهتاف الذي أطلقته حشود جمهور نادي الزمالك في ملعب الدفاع الجوي، قبل استشهاد نحو عشرين منهم في مذبحة أدارتها قوات الأمن بتحريض من رئيس النادي. وقبل هذه المذبحة بأربع سنوات كانت أم المذابح لجمهور النادي الأهلي في ملعب مدينة بورسعيد، والتي افتعلتها الأجهزة الأمنية للمجلس العسكري الحاكم في ذلك الوقت.
الأكثر مدعاة للأسف أن المواطن المصري العاشق لكرة القدم والمشجّع هذا الفريق أو ذاك من الفرق المصرية بات بحاجة للسفر إلى دولة أخرى، لكي يشعر بإنسانيته وحريته كمشجّع، كما يحدُث في مباريات السوبر بين الأهلي والزمالك التي صارت حكرًا على ملاعب دبي، والتي صارت استثمارًا حصريًا مملوكًا لها، أو كما يجري إن حدث وخاض فريق مصري نهائي سوبر أفريقيا في الدوحة، حيث يتوافد آلاف لمشاهدة فريقهم وتشجيعه بحرية.. أو كما قلت سابقًا لمناسبة مونديال روسيا 2018، باتت مصر تنفرد بأنها الدولة الوحيدة التي تقتل جمهور كرة القدم الحقيقي وتسجنه وتمنعه من دخول الملاعب المحلية، ثم تعتبر تشجيع المنتخب في الخارج عيداً وطنياً، للمقتدرين، ولمن تجيّشهم السلطة لرسم صورة فاقعة الألوان لمهرجانات الوطنية الزائفة، تستخدم فيها الوجوه التي لا تتغيّر، مجموعات من أهل الفن والطبل الإعلامي، يشحنون عبر جسر جوي، يقدّمون وصلات الإسفاف ذاتها، مبتذلين المشهد من مباراة لتشجيع الفريق القومي إلى مهرجان لتمجيد الاستبداد، فتكون المحصلة، كما رأيت في روسيا، ابتذالا لمعنى الوطن وابتذالا لكرة القدم وابتذالا للفن وابتذالا للتاريخ الفرعوني ذاته، بكلمة واحدة هزيمة حضارية، تقابلها ردود أفعال عفوية تعبر عن وطنية حقيقية، وتنعش الأمل في وعي هذا الشعب.
في أوضاع مثل هذه، من الطبيعي أن تتراجع كرة القدم المصرية في كل جوانب اللعبة، فتغيب عن المونديال، لعبًا وتحكيمًا، إذ من بين 13 حكمًا عربيًا في المونديال (سبعة منهم حكام ساحة) توجد مصر بواحد فقط (حامل راية)، وهذا حجم حضور طبيعي للغاية ومعبر جدًا عن حالة العدالة في مصر.