القضية جنيفر لوبيز وحسين فهمي
لم يعد موضوع الاستقطاب المصنوع بمهارة هو مع المقاومة أم ضدها، أو في اتجاه الطوفان أم عكسه، بل انتقلنا إلى ما هو أردأ وأرخص، وصارت القضية هي المعركة بين مهرجان حسين فهمي في القاهرة وموسم جنيفر لوبيز في الرياض، والوقود كالعادة كميات هائلة منّ الشوفينية التي يمارسها عرب ضدّ عرب. ولكن حين يتعلّق الأمر بمواجهة الآخر، غير العربي، تحل الدونية خياراً للطرفين العربيين.
على الرغم مما يسببه الاستقطاب الأول حول المقاومة والطوفان من شعور بالأسى على هذه الصاعقة التي ضربت الوجدان العربي، إلا أن قضية هذا الوجدان، في نهاية المطاف، كانت حاضرةً في الاشتباك موضوعاً رئيساً بين المختلفين، في مدار 14 شهراً من "طوفان الأقصى"، الذي جاء أشبه بزلزال أصاب الاستسلام للواقع البليد في مقتل، وبعث القضية المسكوت عنها، أو المتواطَأ عليها بالصمت، من مرقدها، أو بالأحرى من مدفنها الذي اختاره لها النظام الرسمي العربي، وراح يناضل من أجل التطبيع الكامل مع العدو.
في الأسابيع السابقة على اندلاع داحس حسين فهمي وغبراء جنيفر لوبيز، كان صنّاع الاستقطاب الشرير حول القضية، التي كانت وستبقى أهم محدّدات الشخصية العربية السويّة، تيّار صهينة الوعي العربي، قد قطع شوطاًَ مخيفاً في العداء لفكرة المقاومة، والملتفّين حولها من الشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة، ولمشروع المقاومة اللبنانية وثيق الارتباط بالمعركة منذ اليوم الأول من "الطوفان"، لنكتشف أن الانحطاط إلى قاع التصهين بلغ طعن نساء غزّة الصامدات في شرفهن، واتهامهن بالرذيلة، كما بلغ مرحلة ممارسة أعمال الجاسوسية والإبلاغ عن مراكز المقاومة اللبنانية وقياداتها على الهواء مباشرة، عبر قنوات تلفزيونية عربية الاسم والمحتوى.
ثمّ قرّرت الأيادي السود، التي أخذت على عاتقها منذ اليوم الأول تسفيه المعركة وابتذالها، الانتقال إلى مرحلة أخرى تأخذ الاستقطاب إلى مساحة اشتباك جديدة، لا يُؤتَى فيها على ذكر القضية الأساس، ليصبح الموضوع هو النضال بالكوفية والدبّوس، كما في مهرجان القاهرة السينمائي، والنضال في طريق التنوير والتحديث كما في استعراضات مغنية البوب العارية جنيفر لوبيز أمام مجسّم للكعبة في الرياض.
هنا تندلع حرائق الانقسام، وتتأجّج بكل أنواع الوقود اللازمة، الحداثة أمام الجمود، الانغلاق والانفتاح، الريادة والبلادة، التكفير والتنوير، مع إضافة كمّيات من المواد المساعدة على استمرار الاشتعال، فيحضر الشوفينيون والعنصريون بكامل مهاراتهم في استثارة المتعصّبين من الجمهورَين.
في الأثناء، تدخل عمليات الإبادة الجماعية في غزّة طوراً أشدّ إجراماً يتخذ أشكالاً عدّة من حرق الوجود البشري الفلسطيني في أرض فلسطين، واقتلاع الشعب من جذوره، بحرق خيام النزوح على النائمين فيها، ونسف مدارس ومقارّ اللجوء، ودفن ساكنيها تحت أنقاضها، أكثر من مائة شهيد فجر أمس فقط، وفي لبنان، كما في غزّة، تنهمر أوامر الإخلاء والنزوح على سكّان عشرات القرى والبلدات في الجنوب، وعشرات البنايات السكنية في بيروت نفسها، قبل دقائق من القصف بالمقاتلات والصواريخ، من دون أن يحدث ذلك كلّه أثراً في المعركة المنصوبة في ضفّتي العدم، فيستمرّ القتال الإلكتروني بين أطراف حرب جنيفر لوبيز وحسين فهمي، ومن دون أن يستشعر العرب الرسميون الحرج ممّا كتبوه بأيديهم في اجتماعهم الأخير في العاصمة السعودية من قرارات تنصّ على عدم ترك لبنان وفلسطين وحدهما في مواجهة العدوان.
يلفت النظر أن العدوان يمضي في مساره التدميري الإقصائي مطمئناً، بينما يعيش النظام الرسمي العربي فترةً نادرةً من التوافق والانسجام، تكاد تختفي معها الخلافات البينية الموروثة، وباستثناء التوتّر الذي بات ثابتاً من ثوابت الجغرافيا والتاريخ بين الجزائر والمغرب، فإن العلاقات العربية العربية تشهد حالةً نادرةً من التوحّد، لطالما تمنيناها وتصوّرنا أنها ذات أثر هائل في صالح القضية الفلسطينية، غير أن 14 شهراً مضت، أكّدت تخوّفاتنا من أنه توحّد حول الخذلان، واصطفاف من أجل التواطؤ، وكما قال كاتب هذه السطور قبل أربع سنوات، فإن المشكلة الحقيقية أن يأتي الموقف العربي الرسمي الموحّد، الذي حلم به كثيرون، مصبوغاً بألوان العواصم والمحاور العربية صاحبة النفوذين المالي والسياسي، والسطوتين الجغرافية والتاريخية ذاتهما على القضية الفلسطينية، ولو دقّقتَ في طبيعة النظام السياسي ومنطلقاته وعقيدته في كلّ واحدة من هذه الدول، ستجد أنها كلّها من دول الهرولة نحو التطبيع من دون حدّ أقصى مع الكيان الصهيوني، والانفتاح عليه اقتصادياً وثقافياً، بل والتحالف معه، مع إبداء كثير من الاحتقار لفكرة مقاومته، أو تصنيفه عدوّاً، وربّما مناصبة كلّ نَفَس مقاوم له العداء.