من يحدّد تُخوم السياسة الإسرائيلية؟
يلفت النظر، من بين الاعتقادات السائدة بشأن ما يُوصف بأنه صمت "الجناح اليساري" في الحكومة الإسرائيلية الحالية على التصريحات التي أدلى بها رئيس هذه الحكومة نفتالي بينت، خلال زيارته في الولايات المتحدة أخيرًا، وألغى فيها سلفًا أي إمكانية لاستئناف الحوار أو المفاوضات المُجمّدة مع الفلسطينيين، ذلك الاعتقاد أن سبب هذا يعود إلى الرغبة في عدم تفكيك الحكومة الهشّة، بغية سدّ الطريق نهائيًا أمام عودة بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحُكم؛ ما حدا مثلًا بصحيفة هآرتس إلى إنشاء مقال افتتاحيّ شدّدت فيه على أنه حان الوقت كي يستوعب "معسكر الوسط - اليسار"، الذي يشكّل أغلبية ائتلاف الحكومة في إسرائيل، أن نتنياهو استُبدل، وأنه لا يجوز تقديس أي تسويةٍ لمنع عودته نظريًا، وبالتأكيد لا يجوز مثل هذا التقديس إذا كان الثمن هو تأييد واضح لمعارضي العملية السياسية.
يُحتمل أن يكون تفسير تأييد المعسكر السالف معارضي العملية السياسية بأنه ناجم بالأساس عن التمسّك بغاية الحؤول دون تحقيق نتنياهو حلم استعادة الحكم، مقبولًا، لكنه بشكل أكيد ليس التفسير الوحيد لهذا السلوك. كذلك يمكن عدم دحض التوقعات الذاهبة إلى أنه في حال عدم بقاء الحكومة الحالية لأسباب شتى، فإن الفراغ الناشئ قد تملأه، على الأرجح، حكومة يمينية خالصة، كون الأحزاب اليمينية تشغل أكثر من ثلثي مقاعد الكنيست الإسرائيلي الحالي، ولكنّ هذا يظلّ مرهونًا، إلى حدّ كبير، بتخلّي نتنياهو عن رئاسة حزب الليكود. أمّا احتمالات ملء "معسكر الوسط - اليسار" هذا الفراغ فإنها تقارب الصفر الآن. غير أن ما هو أهم بكثير من جميع هذه الحسابات الإحصائية الجافّة أن المعسكر المذكور ما عاد يمتلك لا القدرة ولا الصدقية للتأثير في تحديد تخوم السياسة الإسرائيلية، على الأقل منذ أن تبنّى مفهوم "عدم وجود شريك فلسطيني للسلام"، الذي أوقعه رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك في شراكه في عام 2000، ولا يزال مأسورًا فيه.
وفقًا لدراسة إسرائيلية جديدة صادرة عن أحد مراكز الأبحاث التي تُعنى بالديمقراطية، فإن التعلّق بغاية منع عودة نتنياهو ليس أكثر من حجّة أو حتى حيلةٍ ظريفةٍ للتستّر على واقع مُستحكم في الحلبة السياسية الإسرائيلية منذ أكثر من عقد، ولا يبدو في الأفق المنظور أن ثمّة احتمالًا لتغييره. هذا الواقع يُفيد بأن معسكر اليمين هو من يحدّد تخوم السياسة الإسرائيلية العامة، وأن "معسكر الوسط - اليسار" يسير منقادًا وراءه بإرادته. وهذا الواقع صار إلى رسوخ من جرّاء تحوّلين شهدتهما المؤسسة السياسية في إسرائيل في الأعوام العشرين الأخيرة؛ من جهة، تبنّي "معسكر الوسط - اليسار" رؤى اليمين، ولا سيما حيال ما تسمى "عملية السلام". ومن جهة أخرى، صعود اليمين الشعبوي النيو ليبرالي الذي يسعى إلى الهيمنة على جميع مؤسسات الدولة.
وفي ما يخص "عملية السلام" تفيد الدراسة بأن هذه العملية، في ارتباطها أيضًا بما تسميه "تحوّلات اليسار"، انتقلت ما بين ثلاثة نماذج سياسية – أمنية، كل منها يستند إلى تحليلٍ مختلفٍ للوضع في منطقة الشرق الأوسط، ويعتمد على فرضياتٍ أساسيةٍ خاصة به إزاء ما يمكن وما لا يجوز عمله في سبيل تغيير واقع الحياة في البلد. النموذج الأول هو "السلام الآن"، ووصل إلى ذروته لدى انتخاب يتسحاق رابين رئيسًا للحكومة الإسرائيلية في 1992، وبدأ بالانتهاء لدى اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000. والثاني هو "السلام لاحقًا" وترسّخ إلى حد كبير في عام 2003، عندما أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق آرييل شارون عن "خطة الانفصال" الأحادية الجانب عن قطاع غزة وبعض أجزاء من الضفة الغربية، وانتهى لدى صعود نتنياهو إلى سدّة الحكم، في 2009. النموذج الثالث هو "لا سلام أبدًا"، وبدأ في 2009، وما زال إطار التفكير المُسيطر في السياسة الإسرائيلية!