12 مارس 2022
من ملامح سلامة كيلة
ثلاثةٌ من بين ملامح كثيرة اتصف بها الراحل سلامة كيلة قد تختزل (وفي كل اختزال ظلم، خصوصا لمن هم مثل سلامة) سيرة الرجل الذي تجادل وتلاحم في شخصه العام والخاص، حتى بالكاد تقدر على الفصل بينهما، فالصداقة الشخصية مع سلامة لا تنفصل عن الهم العام، فهي امتدادٌ له، حتى لتحار وأنت تتأمل الأمر بعد رحيله: أيهما كان الأسبق في الصداقة، العلاقة الإنسانية أم الفكرية؟ وعلى الرغم من أن الجواب البديهي هو الإنسانية، فإن التأمل أعمق، يثير أسئلةً كثيرةً عن علاقة الفكر مع الواقع والإنسان المنتج للمعرفة، أليس ما أنتجه من فكر ومعرفة كان طريقك إليه، وأليس شخصه ولطفه وطفولته ورقّته التي تماهت مع فكره هي من تجعلك تمتنّ لتلك الصداقة؟
أول تلك الملامح أن سلامة، بفكره وحياته، كان أبرز من يمثّل التجلي الأخير لأرفع أنواع المثقف. كون أنّ المفاهيم كائنات حيّة، تنمو وتتطور وتتغيّر، وقد تنكص وتموت، وتتخذ أشكالا متعدّدة، فإن مفهوم المثقف واحد من تلك المفاهيم الذي لا يزال يطرح أسئلة كثيرة على الفكر، ويثير إشكالات كثيرة حول معناه وتعريفه ووظيفته ودوره، وهو مفهومٌ تغيّر معناه وتعريفه وتطوّر مذ ولد في تربة الثقافة العربية. وقد كانت الثورات العربية امتحانا حقيقيا لمعنى ومفهوم المثقف من جهة، وللمثقف نفسه من جهة، وللمشتغلين في الحقل الثقافي من جهة ثالثة، إذ ارتدّ "مثقفون" كثيرون عن المعنى الحقيقي لهذا المفهوم، فيما ارتقى فيه آخرون نحو آفاقٍ جديدة.
وبينما كان مثقفون ومفكرون عديدون يصيغون وعيا وفهما جديدا للمثقف على ضوء الثورات
العربية، كان سلامة يبتكر هذا المعنى، ويصوغه ويوسعه ويفتح أمداءه على أرض الواقع، لا في النظرية أو الكتابة فحسب، فهو المثقف الذي لم يتردد لحظةً في الانضمام للمظاهرات، ولم يتوقف عن تشكيل التكتلات الثورية والسياسية ذات الطابع اليساري، منتقلا من المظاهرة إلى بيتٍ تعقد فيه جلسة سرية عن تنظيم سياسي جديد، ليتابع بعدها إلى لقاء نشطاء شباب في بيتٍ ثالثٍ، ثم يعود إلى منزله ليكتب مقاله أو دراساته التي تكثفت بعد الثورة، ثم يُعتقل ويعذّب، ثم يُعاقب بالنفي، وهي العقوبة التي اعتبرها الأقسى. وهكذا كان سلامة كيلة التجسيد الحيّ للمعنى الجديد للمثقف، المعنى المعجون بوجع الناس وآمالهم بالحرية والعيش الكريم والطالع من رائحة الشوارع التي أثخنها الاستبداد، وهي تتوق للتخلص منه.
كان هذا المعنى الجديد الذي كرّسته حياة سلامة كيلة، من جهة أخرى، إدانةً لـ"مثقفين" آخرين، كان ينتظر منهم أدوارا أخرى، لكنهم اتخذوا طرقا أخرى، مغايرةً لما سبق أن تحدّثوا عنه، ولما كان يتوقع منهم، وهكذا كان سلامة المثال الذي يبيّن ضحالة هؤلاء، وتهافت مواقفهم، لأن سيرته ونضاله وسنوات سجنه ويساريته الراديكالية كانت تكفي لتبيان الفارق بين مثقف و"مثقف".
ثاني تلك الملامح أنّ سلامة فلسطيني بقدر ما هو سوري، وسوري بقدر ما هو فلسطيني، إذ كان الهمّان السوري والفلسطيني حاضريْن بقوة بارزة في مؤلفاته وحياته، لا فصل هنا بين معركة الحرية والتحرير، ولا أولوية لواحدةٍ على الأخرى، فالمعركتان متزامنتان. وهنا أيضا تحول سلامة إلى "إدانةٍ" لفيلق الممانعة وكتّابه ومرتزقته الذين يجدون أن طريق القدس يمر من دمشق وغيرها، فكان المقاوم الحقيقي والممانع الحقيقي في وجه ممانعةٍ مزيفةٍ، كما كان المثقف الحقيقي في وجه مثقف كاذب مخادع.
ثالث هذه الملامح أن سلامة يساري متمسّك بفكره ويساريته في زمن تراجع وهج اليسار،
وتحوله إلى "مسبّة" بعد نكوص عديد من تيارات اليسار، عربيا وعالميا، جرّاء مواقفهم المخزية واللاأخلاقية من الثورات العربية، فكان مثالا ليسارٍ مغاير، يسار سعى وعمل على إنتاجه وولادته (تنظيرا وكتابة وممارسة)، أملا في أن يحمل وعدا وأملا للناس. وهنا لا يستقيم الحديث عن اليسار، من دون التعريج على تأكيد سلامة على أهمية المسألة الاجتماعية والاقتصادية في الثورة، وفي عملية التغيير، فأي تغيير سياسي يبقى ناقصا ما لم يقترن بحصول الشعب على العيش الكريم والمساواة والعدالة الاجتماعية والتعليم الجيد والطبابة. ولهذا كان يرى أن الثورات لم تنته بعد، فطالما أن مطالب الجماهير الشعبية لم تتحقق هنا، فإن الحرية وحدها لا تكفي.
هكذا إذن، في ملامحه الثلاثة التي لا تختزل إليها فحسب، كان سلامة قامة فكرية ونضالية تسمو وتسمو، وكلّما سمت عاليا، ظهر الفارق الكبير بينه وبين المرتدّين والتائبين والملتحقين بالسلطات والاستبداد والمبرّرين لجرائمهم والخائفين من الثورات والمتعربشين على قضية فلسطين واليسار، وغيرهم.
أول تلك الملامح أن سلامة، بفكره وحياته، كان أبرز من يمثّل التجلي الأخير لأرفع أنواع المثقف. كون أنّ المفاهيم كائنات حيّة، تنمو وتتطور وتتغيّر، وقد تنكص وتموت، وتتخذ أشكالا متعدّدة، فإن مفهوم المثقف واحد من تلك المفاهيم الذي لا يزال يطرح أسئلة كثيرة على الفكر، ويثير إشكالات كثيرة حول معناه وتعريفه ووظيفته ودوره، وهو مفهومٌ تغيّر معناه وتعريفه وتطوّر مذ ولد في تربة الثقافة العربية. وقد كانت الثورات العربية امتحانا حقيقيا لمعنى ومفهوم المثقف من جهة، وللمثقف نفسه من جهة، وللمشتغلين في الحقل الثقافي من جهة ثالثة، إذ ارتدّ "مثقفون" كثيرون عن المعنى الحقيقي لهذا المفهوم، فيما ارتقى فيه آخرون نحو آفاقٍ جديدة.
وبينما كان مثقفون ومفكرون عديدون يصيغون وعيا وفهما جديدا للمثقف على ضوء الثورات
كان هذا المعنى الجديد الذي كرّسته حياة سلامة كيلة، من جهة أخرى، إدانةً لـ"مثقفين" آخرين، كان ينتظر منهم أدوارا أخرى، لكنهم اتخذوا طرقا أخرى، مغايرةً لما سبق أن تحدّثوا عنه، ولما كان يتوقع منهم، وهكذا كان سلامة المثال الذي يبيّن ضحالة هؤلاء، وتهافت مواقفهم، لأن سيرته ونضاله وسنوات سجنه ويساريته الراديكالية كانت تكفي لتبيان الفارق بين مثقف و"مثقف".
ثاني تلك الملامح أنّ سلامة فلسطيني بقدر ما هو سوري، وسوري بقدر ما هو فلسطيني، إذ كان الهمّان السوري والفلسطيني حاضريْن بقوة بارزة في مؤلفاته وحياته، لا فصل هنا بين معركة الحرية والتحرير، ولا أولوية لواحدةٍ على الأخرى، فالمعركتان متزامنتان. وهنا أيضا تحول سلامة إلى "إدانةٍ" لفيلق الممانعة وكتّابه ومرتزقته الذين يجدون أن طريق القدس يمر من دمشق وغيرها، فكان المقاوم الحقيقي والممانع الحقيقي في وجه ممانعةٍ مزيفةٍ، كما كان المثقف الحقيقي في وجه مثقف كاذب مخادع.
ثالث هذه الملامح أن سلامة يساري متمسّك بفكره ويساريته في زمن تراجع وهج اليسار،
هكذا إذن، في ملامحه الثلاثة التي لا تختزل إليها فحسب، كان سلامة قامة فكرية ونضالية تسمو وتسمو، وكلّما سمت عاليا، ظهر الفارق الكبير بينه وبين المرتدّين والتائبين والملتحقين بالسلطات والاستبداد والمبرّرين لجرائمهم والخائفين من الثورات والمتعربشين على قضية فلسطين واليسار، وغيرهم.