العلمانية ضرورة دينية
يستند طيف غير قليل من الإسلاميين، ومن يدور في فلكهم في رفضهم العلمانية، إلى اعتبارها "منتجا" وضعه الغرب لكسر راية الدين والإسلام، وأنها، بالتالي، لا تتلاءم مع مجتمعاتنا والدين الإسلامي الخالي من أي "كنيسة" وفق زعمهم، ليخلصوا إلى نتيجة مفادها بأنّ العلمانية ضد الدين.
يتشارك قسم كبير من العلمانيين، في حقيقة الأمر، مع هذه النظرة نحو العلمانية، وإنْ من منظور مختلف، فهم في تأكيدهم أن العلمانية ليست إلا فصل الدين عن الدولة، وفي عدائهم كل ما هو ديني، لا يفعلون إلا تثبيت هذه الفهم نحو العلمانية باعتبارها ضد الدين، وإن من موقع مختلف.
اليوم، تقدّم لنا الوقائع والحوادث والسجالات التي نشهدها في التاريخ اليومي والقريب ما يدفعنا إلى محاولة النظر إلى هذه الأفكار من خارج النظام الفكري (السيستام) الحاكم لكلا الطرفين، حيث تقول لنا الوقائع اليومية إنه لا العلمانية ضد الدين ولا الدين ضد العلمانية في حقيقة الأمر، فالاثنان ضحيتا تنين واحد يعمل على استخدامها ضد بعضهما بعضا من جهة، وبما يحوّل كلا منهما إلى تنّين من ورق في مواجهة الآخر، بعيدا عن التنين الحقيقي الذي عليهما مواجهته معا.
تقول لنا الوقائع اليومية إنه لا العلمانية ضد الدين ولا الدين ضد العلمانية
من جهة الدين، قدّمت لنا الوقائع والأحداث اليومية التي جرت في عالمنا العربي، منذ سقوط بغداد عام 2003، أدلة كثيرة ومكثفة على أمرين: أولهما أن الدين/ الإسلام قابل للاستخدام من السلطات السياسية أداة سياسية في خدمة هذا الاستبداد، ومن رجال الدين أنفسهم. وثانيهما أنّ الصراعات البينية داخل الحقل الإسلامي ذاته قابلةٌ لأن تفجر الدين الإسلامي وتهدّده وتشوّهه أكثر بكثير من قدرة العلمانية والعلمانيين أو الغرب على فعل ذلك، وإن استغل الأخير الأمر لمصلحته، وهذا ما تفعله عموما أية قوة سياسية لها مصالح في المنطقة، غربية كانت أم شرقية، محلية أم إقليمية. هذان الأمران (استخدام الدين سياسيا والصراعات العمودية داخل الإسلام ذاته) يبينان لنا، وبما لا يدع مجالا للشك، أن الإسلام بوصفه دينا، هو بحاجة أكثر من غيره إلى ما تقول به العلمانية، ليس من حيث الفصل بين المجالين، الروحي والديني فحسب، وليس من حيث إن العلمانية عملية إجرائية لفصل الدين عن الدولة (وليس السياسة) فحسب، بل من حيث حاجة الدين لتمثّل الثقافة العلمانية والديمقراطية في داخله، للاعتراف وعلى مستوى المساواة الكاملة بكل التعدّديات الدينية التي يحفل بها الجوف الإسلامي من داخله، فنحن هنا بحاجة إلى علمانية إسلامية إسلامية، لكي تعترف وتقبل كل المكونات الإسلامية ببعضها بعضا، بعيدا عن التكفير والتخوين والأبلسة التي ترمي بها كل طائفة إسلامية الأخرى. نحن هنا بحاجة إلى شجاعة دينية في تبنّي العلمانية باعتبار أنها حاجة إسلامية لوقف هذه الحرب الأهلية الجارية داخل الإسلام ذاته، والتي تتجلّى على سطح التاريخ بين حين وآخر على شكل حروب طائفية أو مليشيات مسلحة، فليست حركات مثل حزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وأنصار الله (الحوثيين) ورجال الكرامة والحشد الشعبي وتوابعه وأشباهه في العراق وسورية .. وباقي البلدان إلا تمثيل على مستوى السطح للسرديات الحاكمة عميقا في وعي الطوائف المتمترّسة خلف إيديولوجياتها العلنية والسرّية المخوّنة للآخر والخائفة منه في آن، والمتسترة علنا تحت حجاب التسامح وحوار الأديان وغيرها.
يحتاج الدين لتمثّل الثقافة العلمانية والديمقراطية في داخله، للاعتراف وعلى مستوى المساواة الكاملة بكل التعدّديات الدينية التي يحفل بها الجوف الإسلامي
سبق للمفكر الراحل، جورج طرابيشي، أن تحدث في كتابه "هرطقات 2" أن العلمانية حاجة إسلامية قبل أي شيء آخر، حيث قدّم أمثلة كثيرة تضمّها السرديات الشيعية والسنية من تخوين وتكفير للآخر، وهو الأمر الذي لا يزال مستمرا. وقد جاء سطوع مسألة الاستخدام السلطوي للدين وبروزها وانكشافها في عدّة أحداث متتالية أخيرا، ليعزّز رأي طرابيشي من أن العلمانية حاجة دينية/ إسلامية، قبل أن تكون حاجة وطنية أيضا.
أما من جهة الطيف العلماني، فطالما كانت العلمانية في وعي هؤلاء موجّهة ضد الدين، في حين أن الأحداث الأخيرة كشفت لنا أيضا أن كثيرا من سياسات الأحزاب والتيارات التي تصف نفسها بأنها علمانية هي أقرب إلى الاستبداد من أي شيء آخر، حيث يكاد يكون عداؤها للدين عقائديا، كما هو عداء بعض الإسلاميين للعلمانية، إلى درجة أن التحالف مع الاستبداد، بالنسبة لها أفضل من التحالف مع الإسلاميين، وهذه السياسة ما كانت لتكون لولا الوعي الحاكم لهذه الأحزاب "العلمانية" تجاه الدين والعلمانية نفسها أيضا. وهنا أيضا كشفت الأحداث والتطورات، الحاصلة أمام أعيننا أخيرا، تهافت هذا الوعي "العلماني" وقصوره، لأنه عجز عن فهم أن العلمانية ليست عقيدة إيمانية بقدر ما هي مجموعة إجراءات تعني حياد الدولة ومؤسساتها تجاه كل الأديان والعقائد، دينية كانت أم حزبية أم شمولية... وعليه، ليس الخطر كامنا في الدين، بل في أية إيديولوجية قد تهيمن على الدولة ومؤسساتها. ويمكن لهذه الإيديولوجية أن تدّعي الدين كما في طهران أو تدّعي العلمانية كما في سورية ومصر، أي كما أن هناك رجال دين يعملون في خدمة السلطان، هناك "علمانيون" يعملون في خدمة الاستبداد، ولا يمثل أيٌّ من هؤلاء الدين أو العلمانية، بل إن الاثنين مجرّد بيادق في يد الاستبداد لضرب الدين والعلمانية معا.
نحن بحاجة لأن يدرك علمانيون كثيرون أن مشكلتهم ليست مع الدين، بل مع السلطات المستبدّة ومع التيارات المتشددة
أما والحال هذا، فنحن بحاجة اليوم إلى أن يفهم أهل الدين أو من يدّعون تمثيله أن العلمانية، بما هي حياد للدين عن الدولة ومؤسّساتها ومنع استخدام الدين السلطة والمؤسسات الدينية على السواء الدين في المعارك السياسية، هي حاجة دينية قبل أي شيء آخر، لأنها تضمن للدين نقاءه، وأن يبقى مجرّد قيم ومثل أخلاقية موجِّهة إلى عمل الأحزاب ذات الخلفية الدينية. وهذا لن يكون، ما لم يمتلك المسلمون وأهل الأديان شجاعة النظر النقدي في سردياتهم الدينية، فكلما تحرّر الدين مما علق به من رواسب صنعتها السلطات (دينية كانت أم سياسية) على امتداد التاريخ، أصبح أكثر قربا من العصر، وأكثر قربا من السماء، وأكثر تقبلا للعلمانية باعتبارها حاجة له، وليست ضدا له كما هو قائم الآن.
وأيضا، نحن بحاجة اليوم لأن يدرك علمانيون كثيرون أن مشكلتهم ليست مع الدين بإطلاق، بل مع السلطات المستبدّة من جهة، ومع التيارات الأصولية المتشدّدة (دينية/ إسلامية كانت أم ماركسية أم تدّعي العلمانية أم ..)، بما يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى نقل الصراع الديني العلماني في العالم العربي والإسلامي من صراع عمودي شاقولي إلى صراع أفقي، وبما يمنع الاستبداد من استخدام الطرفين في معاركه لإدامة سيطرته. وهذه معركة تتوقف نتيجتها على الطرفين الديني/ الإسلامي والعلماني، بأن يمتلكا وعيا جديدا للعلمانية، يقطع مع الوعي القديم لها في أذهانهم، ليكتشفوا الإمكانات الكامنة فيها بما يخدم الطرفين معا، وبالطبع الأوطان قبل أي شيء آخر.