من غيّبَ الآداب والفنون عن معركة غزّة؟
مثلت الآداب والفنون حالة موازية ومعبّرة عن المجتمع، وكانت وجهه الآخر وصورته التي تتّخذ أشكالا تعبيرية قادرة على رسم صورة أبعد من يوميات الحدث العابر التي قد لا يقف عندها كثيرون، وكانت تُخلد أحداثا كثيرة مرت بها البشرية، ومن بينها حالة المقاومة التي وجدت فيها الفنون والآداب المختلفة حالة متمايزة ومتفردة عن مواقف وأحداث كثيرة، فكان أن أفردت لها مساحة واسعة، حتى تحوّلت الآداب والفنون التعبيرية الأخرى إلى فعل مقاوم قد لا يقلّ أهمية عن أشكال المقاومة المسلحة الأخرى، بل إنها، في أحيان كثيرة، كانت الخزّان التعبيري الموازي في قوته وتأثيره للفعل المقاوم، ومن هنا انطلق مصطلح أدب المقاومة الذي احتلّ مكانة مميّزة على مرِّ العصور.
يُحيلنا مصطلح أدب المقاومة بشكل مباشر إلى فلسطين، الثورة والقضية، التي أخذت حيّزاً كبيراً من الآداب المختلفة، بشتى أنواعها الكتابية والأدائية، منذ وجد فيها الأديب قضية تستحقّ النضال، ومنذ أن وجد كثيرون أن القلم يمكن أن يساهم في الدفاع عن المظلومين ونصرتهم، فكان، بداية، الإنسان الفلسطيني الذي نجح في المرحلة الأولى في التعبير عن قضيته ونقلها إلى المحيط العربي، قبل أن تتجوّل في أرجاء المعمورة، لتجد لها مناصرين كُثرا، بغضّ النظر عن قومية أو دين أو عرق أو جنسية.
نجح الراحل غسّان كنفاني في أن يؤصّل لمصطلح أدب المقاومة الفلسطينية من خلال إصدار ثلاث دراسات بحثية تناول فيها الأدب الفلسطيني المكتوب، وحتى المحكي، من مرحلة ما بعد النكبة عام 1948، ليعيد وصل الأدب الفلسطيني بالعالم، ويقدّم نماذج من هذه العناوين الأدبية للقارئ العربي، قبل أن تبدا حروفه بالتنقل بين مختلف اللغات والأمم والشعوب، ليتعرّف العالم إلى فلسطين من خلال الأدب.
نجح الأدب الفلسطيني المقاوم في نقل الصورة وتعزيز وجود القضية
وعبر رحلةٍ قاربت العقود الثمانية، نجح الأدب الفلسطيني المقاوم في نقل الصورة وتعزيز وجود القضية. وعندما نتحدّث عن الأدب الفلسطيني المقاوم، فنحن هنا نتحدّث عن مصطلح تجاوز الجغرافيا، وذلك من خلال مئات الروايات والقصص والقصائد التي كتبت تحت هذا المصطلح وأبدعها أناس آمنوا بعدالة القضية الفلسطينية، وساندوا بأقلامهم هذه القضية عقودا.
ولعلنا هنا لا يجب أن نغفل الفنون الأدائية الأخرى في تعبيرها عن ضمير الشعب الفلسطيني ومقاومته التي ما انطفأت، فكانت الأعمال المسرحية والموسيقى والدراما حاضرة معبرة، وإن بدرجاتٍ متفاوتة، إلا أنها نجحت في إيصال الصورة. ولعلنا هنا نشير إلى "التغريبة الفلسطينية" لوليد سيف وإخراج الراحل حاتم علي، و"عائد إلى حيفا" عن رواية كنفاني الخالدة، وهما من المسلسلات التي ما زالت قادرة على التعبير عن واقع القضية الفلسطينية وماضيها بطريقة تجعلها حية في ضمائر الملايين، وتبقى الأمثلة أكثر من أن تُحصر.
أسوق هذا الكلام، وأنا متابع ما يجري على سطح المشهد الأدبي والفني من غياب شبه كامل عن المشهد الجاري في غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، غياب يُشعر المرء بالحيرة، وكأن هذه المجازر التي ترتكب وتنقل على الهواء مباشرة ما عادت قادرة على تحريك الأقلام ومن قبلها الضمائر للوقوف والتضامن والتعبير ومساندة الشعب الفلسطيني، وهو يواجه آلة القتل الإسرائيلية.
دَجَّنَ النظام الرسمي العربي الثقافة، وجعلها حكرا على مسابقاته ومهرجاناته
أفهم أن السرد الأدبي قد يأخذ وقتا أكبر للتعبير عن اللحظة الراهنة، أتفهّم جيدا أن الأمر بحاجة ربما إلى هدوء المعركة وتكشّف غبارها، ولكن ما لا أفهمه غياب الشعر، غياب المسرح، غياب الأغنية المقاومة، وكأن الجميع متماهٍ مع المواقف الرسمية للأنظمة العربية في التخلي عن واجبها تجاه غزّة وفلسطين، بل ثمّة من راح يحيي الحفلات الغنائية هنا وهناك، حتى من دون وازع من ضمير أو من أخلاق، وكأن الدماء التي تسيل غير قادرة على أن توقظ بقايا ضمير.
تعرف المنطقة العربية عموما حالة من التردّي الثقافي لا تقلّ عن حالة التردّي السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه، بل ولا تقلّ عن التردّي الفني، ومردّ ذلك أن السلطة نجحت في قمع كل صوت حر لا يتسق مع مواقفها، تارة بالترهيب وأخرى بالترغيب، ناهيك طبعا عن أن هناك حالة من وهنٍ ثقافي عام ليست جديدة منذ جرى خنق الإبداع، وهو ما انعكس غيابا على التفاعل الثقافي والفني مع ما يجري في غزّة من مجزرةٍ لم يسبق لها مثيل. وقد دَجَّنَ النظام الرسمي العربي الثقافة، وجعلها حكرا على مسابقاته ومهرجاناته، وبالتالي، لا تتم دعوة شاعرٍ أو أديبٍ أو حتى مطربٍ مناهضٍ لهذا النظام ومواقفه، بل وصل الأمر إلى أن مثقفين وأدباء وفنانين كثيرين ممن انتقدوا موقف هذا النظام أو ذاك باتوا مهمشين.
من هنا، يتجدّد السؤال الذي بحاجة إلى مزيد من البحث والإجابة، أين دور المثقّف العربي؟ لماذا تراجع كل هذه الخطوات عن نصرة قضايا أمته؟ كيف يمكن لأنظمة قمعية أن تسجن الفكر ولا تصدر منه إلا ما تريد هي؟ ... غزّة ومعركتها تجبراننا على طرح مثل هذه التساؤلات، نحن الذين كنّا نعتقد أن سلطة الثقافة أكبر من ثقافة السلطة.