من "صور الموت الفلسطيني"
انقضت ثماني سنوات على إصدار الأكاديمي والناقد الفلسطيني، إسماعيل ناشف، كتيّبَه (كما يصفُه) "صور الموت الفلسطيني" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2015). وحدَث أن صاحب هذه الكلمات قرَأه في وقت سابق، غير أن صور الموت الفلسطيني اليومية في المذبحة التي يُواصل العدو الإسرائيلي في قطاع غزّة ارتكابها، منذ أزيد من أسبوعين، تُحدِث رغبةً في النفس بمعاودة قراءته، وكان الانطباع أنّه على شيءٍ من الصعوبة، في لغته، المفاهيميّة منها خصوصا. ومردّ الرغبة المتجدّدة هذه الوقوع على ما قد يكون الكتيّب قد جاء عليه بخصوص الموت الفلسطيني، ويُسعِف، ولو إلى حدٍّ ما، في محاولة النظر البارد، الأكاديمي العلمي المحض، في لحظة الموت الفلسطينية شديدة السخونة، الفردية والجماعية، في المقتلة الراهنة التي تُتابَع على الهواء مباشرةً، وإنْ من المستحيل، بداهةً، أن يتخفّف واحدُنا من غيظِه وحِنقِه الباهظيْن، وهو منقطعٌ إلى مشاهدة التلفزيون، فيختلس برهةً لذلك البرود المتوخّى، والملحوظ في الجهد التفكيكي الحاضر في الكتيّب، المثير، وربما الجديد في مقاربته.
يوضح إسماعيل ناشف في تقدِمتِه كتيّبه (87 صفحة) أنه يتناول سؤاليْن عن إمكانية دراسة المجتمع وفهمه من خلال دراسة أنماط الموت السائدة والمنتحية فيه، وإمكانية دراسة الموت من خلال دراسة أنماطه المتباينة، وذلك في سياقٍ محدّد جدا: "التضحية والشهادة والاستشهاد بما هي طرائق موت، والمجتمع الفلسطيني الذي يحتّم هذه الطرائق". وعندما تعبُر إلى صفحات الكتيّب، لا ترى الباحث أتى على وقائع موتٍ فلسطينيةٍ، جماعيةٍ أو فرديةٍ، حضر فيها الاستشهاد، في مجزرةٍ أو اغتيال أو اشتباك، إنه يضنّ على قارئه بها، فلا أمثلة، إلا نادرا، وذلك، ربما، لفرط استغراقِه في تسييج فكرته بالمفاهيم الإجرائية وبالاجتهاد النظري الذي يراه أصلح (أو أنسب؟) لإيضاحِها. وهو يكتبُ في معرض حديثه عن مدخلِه إلى فهم الموت/ الحياة، "إننا لا نسأل هنا عمّن مات/ قُتل/ استُشهد من الفلسطينيين بما هو اسم عين، فاسمُه الفلسطيني يتشكّل من إجرائية الموت التي تحيا اسما في السجلّ". وتأخذ النكبة في 1948، في المعالجة، العويصة أحيانا، مساحةً أعرض من غيرها في الكتيّب، وهي في سياق ما يصنعه إسماعيل ناشف، "لحظةٌ مفصليةٌ في تاريخ إدارة شؤون الموت الفلسطينية".
ولمّا كانت صور الموت الفلسطيني المتتالية من قطاع غزّة ومخيّماتها ونواحيها وأسواقها ومساجدِها وكنائسها ومستشفياتها تُنبئ عن نكبةٍ، من ذلك النوع الذي تشهد المجازرُ عليه، فإنك، في سبيل استكشاف ما عاينه الكتيّب (اللافت عن حقّ) الذي بين يديك، تجدُك تقرأ إن "القتل المنظّم (في غضون النكبة) استمرّ على طريقة المجزرة، وإنْ كان أبرزُها ما جرى في قبية وكفر قاسم، لكنها كانت جزءا من سلسلةٍ ممتدّة". ويرى الباحثُ، في موضع تالٍ، أن "من الممكن تتبّع تاريخ ممارسة الموت الجماعي على الفلسطينيين، من خلال فحص العلاقة العينيّة بين الاغتيال والاعتقال والمجزرة، بما هي تقنيات إجرائية ناجعة لإنجازه". وإذا كان الكتيّب قد جاء على "صبرا وشاتيلا" وغزو لبنان وما أحدثته منظمّة التحرير من فعل مؤسّساتي في النظر إلى الموت الفلسطيني، فإن في الوُسع أن يُدعى إسماعيل ناشف، هنا في هذه المقالة، إلى أن يخصّص جهدا بحثيا وأكاديميا (وإنْ ليس باللغة الصعبة بعض الشيء في كتيّبه) للموت الجماعي الذي تُحدِثُه آلة القتل الإسرائيلية في غزّة، والموصولة بقتلٍ شوهد وعويِن في أربع حروبٍ عدوانيةٍ سابقةٍ على القطاع، ما قد يكون استئنافا منه (أو استكمالا إذا شاء) لدرْسه الذي بادر إليه، والذي يبدو أنه من شواغِله المقيمة في بالِه منذ دراسته الدكتوراة. هل سيجد للموت الفلسطيني الجاري تنويعاتٍ مختلفةً، أو متمايزةً، أو متّصلةً، أو مرتبطةً، مع صور الموت السابقة؟
جاء الباحث على صورة "الاستشهادي"، في معرض حديثٍ عن بدء سقوط منظومة الشهيد "بوصفه جسر عودةٍ من فوق هوّة الغياب"، بعد إعلان استقلال دولة فلسطين في الجزائر في 1988، ولمجتهدٍ أن يصيب أو يخطئ، لو سأل عمّا إذا كانوا استشهاديين الشبّانُ الذين باغتوا كيبوتزاتٍ ومستوطناتٍ ومواقعَ إسرائيليةً يُفترض أنها محصّنةٌ فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. في وُسع إسماعيل ناشف أن يجيب في مبحثٍ أوْفى منتظرٍ منه، في سياق درْسه صورا للموت الفلسطيني جديدةً ومتجدّدة في غزّة تحت المذبحة الراهنة.