من بنت شفة إلى بنت هاتف

20 يونيو 2022

(نيكولا دو ستايل)

+ الخط -

يحدُث حين تلتقي مباشرة صديقاً فيسبوكياً كان يراسلك بوفرة عبر "ماسنجر"، أن يقعد أمامك صامتاً، ثم بالكاد ينطق ببنت شفة. أتذكّر الصديقة الصينية التي تستخدم اسماً عربياً، وهذه عادة وجدتها في المغرب عند الطلبة الآسيويين، لكي يسهلوا أمر أسمائهم الصعبة التي تتبعثر في الفم قبل أن تُنطق، بأن يبدّلوها بأسماء عربية سهلة، الواحد منها من أربعة أحرف غالباً. مثلاً، كان لدي زميل كوري جنوبي، عرّفني إليه الأستاذ الجامعي الراحل، إدريس بلمليح، اسمه خالد. ظننت فعلاً أن هذا اسمه، ولكني مرّة دعوته إلى الشقة التي أسكن فيها في الرباط برفقة زملاء من اليمن، وسألته عن سرّ هذا الاسم، وكان جوابه صريحاً حين نطق باسمه الكوري، فوجدت أن من الصعب حفظه، لذلك تفهمت تصرّفه بسهولة.
بالعودة إلى الصديقة الصينية التي كنت أتواصل معها عبر "ماسنجر"، وكانت إحدى طالبات الأستاذ الجامعي، محمود عبد الغني، الذي عمل في جامعة بكين أستاذاً زائراً. لم تنطق الفتاة ببنت شفة، حين التقينا أول مرة. ظلت في مقهى كلية الآداب في جامعة محمد الخامس صامتة تتفرّج على الداخلين والخارجين. وكنت أستفزّها للحديث، ولكن أغلب ردود فعلها كانت بالإيماءات، بالإضافة إلى الابتسام الذي يساهم في إخفاء عينيها الضيقتين. يكمن السبب ربما في أنها كانت تنطق الكلمات العربية بصعوبة، ولكنها حين كانت تكتب، ويا للعجب، كان قلمها سيّالاً ودون أخطاء، فيتدفق ذلك الحرص على الكتابة الصحيحة بالعربية، والانتباه للشروط الحاسمة للقواعد، ووضع كل كلمةٍ في مكانها المناسب من الإعراب والصرف. فبعد "لم" كل شيء يجب أن يكون ساكناً، والفاعل كتب له أبد الدهر أن يكون مرفوعاً، وظلت الممنوعات من الصرف تتحرّك بحريةٍ ورشاقةٍ بين أناملها.
لا نحتاج الآن إلى أكثر من لقاء عابر، لأن جعبة الحديث قد أفرغت سابقاً. لقاء عابر مختصر، وبكلام قليل ربما، هو الأنسب حالياً مع عصر السرعة. لن ترتبك، حين تقبض على هاتفك، وتبثّ فيه حديثاً طويلاً، بينما قد ترتبك، ولو قليلاً، إذا كان صديقك أو صديقتك أمامك. حتى تعابير الحب أجمل عبر الهاتف، ومن يعرف ربما أصدق كذلك.
ولأني أمتهن كتابة القصة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فسأسرد هذه الحادثة الطريفة. حين كنت مقيماً في تونس، كنت أتصل بعائلتي من كشكٍ يمتلكه العم لحبيب. وهو شيخ سمح المحيّا. ولكني حين تعرّفت إليه أول مرة، ظننت أنه يطردني من دكان هواتفه، وهو دكان ليس فيه سوى هواتف عامة. حين دخلت من أجل المكالمة، طلب مني، بطريقة حازمة، أن أنتظر لأن المخادع كلها شاغرة. ثم فجأة قال لي: برّه برّه. ظننته يطردني فجأة من المحل، ولكنه تحرّك من مكانه وأخذ بيدي وهو يكرّر برّه برّه، ويقودني جهة مخدع الهاتف الفارغ. لأكتشف لاحقاً أن كلمة برّه تعني بالتونسي أسرع أسرع. رحل العم لحبيب، ولم تعد توجد مخادع هواتف، تلك التي كنا نبقى ننتظر أدوارنا أمامها لكي نتحدّث. عليك كذلك أن تُدخل عملة نقدية لكي تتكلم. وإذا انتهت النقود ستسكت شهرزاد عن الكلام المباح.
مع زيادة المغتربين والاغتراب في العالم، يمكنك الآن أن تختصر الشوق والحنين، أن تُحادِث أمك مثلاً أو خالتك أو أختك. لن يكون الأمر معقداً، ولن يستدعي الأمر البكاء كما كان يحدث، حين تصل إليهم مكالمة منك وأنت البعيد دائماً. كانت خالاتنا وعمّاتنا حين يريننا يستقبلننا بالدموع. هذا الأمر لا بد شعر به عديدون من قراء هذا المقال المتواضع. والأمر الآن لن يحتاج لذلك كله، فالغروبات والمكالمات الواتسابية وغيرها من وسائل لمّ الشمل ستختصر حتى الحنين بين القارّات، وتقرّب لنا البعيد لتضعه في طبق من حياة. هذه البدائل التي طاولت المشاعر والأحاسيس، علينا أن نقرّ بها، هي أمر واقع يغيّر وسائله مع كل جيل.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي