من بئر كآبة الدكتاتور تبدأ الحرب

03 مارس 2022
+ الخط -

كثيراً ما تأملت ملامح بوتين، وتلك العيون الزجاجية الحريصة جداً على طمس ملامح الذات، وكأنّه يمتلك ذاتاً أخرى غير ذاته، مراوغة تنظر إلى الأحداث والإنسان من فوق قمة بعيدة، بعيدة جداً، حتى عن الحدث المطروح للمناقشة، وكأنّه يتعالى بالذات إلى هناك، ذات وكأنّها تتربّص بوهم ما يخايله هو وحده بعيداً عن الحدث، ذات زجاجية تحرص حرصاً شديداً على كتمان ما بها، إلّا أنّ الغيظ الطافح في الوجه يفضح كثيراً وجه الرجل، فيبدو وكأنّه لا يحوي على أيّ شىء سوى غيظ مكتوم في الذات بلا أيّ سببٍ منطقي أو واقعي، هل لذلك يبدو الرجل وكأنّه يلمح غموضاً ما داخل غرفة من زجاجٍ مفضوحٍ جداً للرائي السياسي قريب من الواقع.

يتعالى بوتين على السياسي الذي فيه، وحتى على الرئيس الذي فيه، وكأنّه يطمح إلى شيء ما هناك، حتى جاءت قسوة الحرب مع دولة جارة قليلة في عتادها العسكري واستعدادها للحرب، وجد صيدَه في جاره. هنا بدأت خسّة الوحدة وفزع الكآبة مرة واحدة. حاول بوتين أن يستعين بالتاريخ كي يبرّر قسوة كآباته على دولة جارة، فرمى سبب الحرب على لينين الذي فرّط في أوكرانيا من سنوات.

كانت معارفه التاريخية في سردية رجلٍ قام من كهفه، أو كهف كآبته فجأة، فأراد أن يعيد مجد روسيا مرة ثانيةً على حساب دولة جارة، لا غزته ولا أحدثت شيئاً. خرج الرجل من بئر كآبته، إلى صولجان الحرب ووعورة القتل، عاد إلى بئر الدماء الأولى للجنس البشري، عاد إلى سعار الدم، ورمى المتاحف والموسيقى والسينما والفن والدين وخلق الجيرة في البحر الأسود، وبدأ في شحن السفن وإطلاق الصواريخ.

لم يخجل، الكئيب لا يخجل، وخصوصاً حينما تتحوّل الكآبة إلى عمل وطني يحفظ على روسيا أمنها وترابها ومياهها المقدسة، فكانت الحرب، جراحة اضطرارية لتلك الكآبة التي شكّلت مرضاً، وعلّ المريض ينال الشفاء.

الحرب آلة للسطو على تراب الآخرين ومغانمهم من أجل حاجة، من أجل بئر ماء كما كان يحدُث في بلاد العرب. بوتين يمتلك الأنهار وجبال الثلج والنفط والغاز والحسان والزرع، فما حاجته للحرب؟ الوحيد بكآبته، ليست له حاجة، يبحث عن ألوهية وهمية بالسلاح والقنابل والسفن، حتى ولو كان الخصم ضعيفاً وليس في نيته أي حرب، ولكن الحرب كانت قد قامت أولاً في بئر كآبة بوتين وأحلامه ووحدته.

الملك أحياناً حينما يغازل العين من بعيد يختلط الحكم بألوهية وهمية كمن يدّعي نبوة، ويخرج معلناً عزمه على تلقي الرسالة، رسالة بوتين من باب الحرب، والسلاح موجود وينافس الصوت بأضعافه كما أعلن هو متفاخراً، إنّها لعبة السوبرمان في عالم يبحث عن العيش والصداقة والفن وعن بيت.

بوتين ليس في حاجة لبيتٍ ولا موسيقى، بوتين في حاجة لمجد يداوي جرح الكآبة، والعالم ليس فيه شبيهه، فلماذا لا يبحث عن هذا الشيء الذي يشبه الألوهية الزائفة طالما مصانع الطائرات تنتج ومصانع الدبابات تنتج، والجار ضعيف والعالم في غفلةٍ مع أحلامه وأزماته وأمراضه ومستشفياته ولقاحاته.

لماذا لا يتوجه هو نحو مجد الدم، بعدما نسيت روسيا القيصرية والبلشفية، الدم، فتكوّنت دول حوله تتزين بالديمقراطية التي لا يحبّها وتشبه المثلية أو البراص أو الضعف، الرجل يبحث عن قوة زعامة، قوة تجعله في عداد هتلر أو نابليون .. إلخ، قوة تجعل الناس يجلسون ما بين رجليه يطلبون منه المصالحة، أو العفو، بشرط رمي السلاح، وقد يتعطّف عليهم بعدم هدم مدينتين أو خمس أو عشر أو يعاد بناء ما هدمه كهدية من إله زائف، ثم يعود هو إلى مياهه المقدّسة وكهفه، بعد أن يتحدّث العالم عنه أياماً أو شهوراً أو قروناً. بوتين وكأنّه ينظر إلى مرآة من سنين، مرآة يرى فيها نفسه وقد صنع تاريخاً ما للعالم، تاريخاً للقتل، أو للغزو، أو للدم، أو لضم دولةٍ جارة في ليلتين، دولة لم تتعظ ولم تتعلم منه الأدب، دولة تمشي في ركاب الغرب، ولا تمشي في ركابه، ولا تنظر إلى المرآة نفسها التي ينظر فيها، دولة لا تفسر الأحداث تفسيره نفسه، ولا تنظر إلى التاريخ نظرته نفسها، ولا إلى العالم الآن بمنهجه نفسه، دولة من ناس عاديين جداً يسعون إلى الحياة.

بوتين لا يسعى إلى الحياة، بوتين يسعى إلى جوهر صناعة الهدم، هدم حتى العالم، وهذا هو خطر بوتين حتى على نفسه، وقد هدّد به كي يخيف العالم.

بوتين لم يلحق به من العالم خلال سنوات أي ضرر، فهو الذي ينصّب ويحكم ورجال الأعمال حوله والنخبة صامتة، أو مع امتيازاتها، لكنّه ملّ هذا الهدوء العذب، بعد ما عرف أن يهندسه كرجل مخابرات ربع قرن، بوتين عاد إلى ذاته، بكلّ مراياه وكآباته ووحدته، كي يبدأ في صنع معجزة له، ولو حتى ببحريْن من دماء، ووجد ضالته في الحرب، فكانت.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري