هل وصلتَ يا سعدُ قبلنا؟
اليوم، في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعدما أوشك أن يلحق بالثمانين من عمره، رحل الكاتب المصري سعد الدين حسن، الموهوب وعزيز النفس حد الإفراط في التيه بوحدته، والوحيد دائماً بعيداً عن كل صخب، والمبتعد عن كل الموائد والجوائز والأضواء التي تهلّل لأهل الطرب ومطابخ المسلسلات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، مات الصامت والعزيز بأحزانه.
الآن، هل وصل سعد إلى مبتغاه البسيط، حيث كانت مراضاته في الدنيا بأشياء بسيطة جداً، كأن ينحني قليلاً في أدب جمٍّ وحقيقيٍّ على كفّ هانم جميلة ويقبله بنبل، لا بدناءة، وذلك في خجل وشكر وامتنان، ثم يعود إلى مكانه، برنس حقيقي فقد كل أحبّته في غرق سفينةٍ ما، ولم يتبقّ له من ثروته سوى بعض ملابس، كأنه كذلك.
كان سعد يغيب عن القاهرة شهراً أو شهرين، أو يعمل سنوات ثلاث فقط كعطشجي في قطار مطروح في السبعينيات من القرن الماضي، يحمل الفانوس في ليل القطارات، ثم يترك عمله بعد تجربة ثرية. وكعادة سعد، يترك كل التجارب ويكتفي بلوعة القلب في أثناء تحديقه في وجه يمامة أو بنت صغيرة تحجل وسط البنات على أول قريته أو زهرة نابتة ما بين عيدان الفول أو حزانى ومجاذيب ومقاطيع ومقاهي السيد البدوي الغامضة والفقيرة وبداخلها البسطاء من أهل المكان في تساند وطيبة ومرح، وهي تجربة مُعاشة لم يقترب منها سعد. فقط يحكي إن أذن له القلبُ بالحكي في ساعات الصفاء، يحكي وكأنه يحكي عن جُرحه هو، لا ألم ما يحكيه أو يحكي عنه. سعد زاهد حياة، وزاهد كتابة رماه حظّه في دنيا الكتابة، واستظلّ بالقليل، تاركاً الصخب كله من التجارب وراء ظهره، وأخيراً استقرّ في "شبشير الحصّة"، قرية بعيدة بطنطا، بعدما احترس من القاهرة، وقاده الاحتراس إلى الوحدة وهجرها، إلى حدٍّ ما، بعدما مات أغلب الأصدقاء، وصارت القاهرة من غير أنسٍ يليق بسعد.
كان أمل دنقل يسأل عنه بعبارة شبه محفوظة: "هل وصل سعد يا جماعة؟". مكث في سنواته الأخيرة بجوار أولاد أخ له مات في شبابه، وكان يحنو على سعدٍ كأب، وكان سامح ابن الاخ المتوفى في سنوات سعد الأخيرة مادة سلواه وضحكه وأساه لمرض سامح النفسي وتركه البيت يوماً أو يومين، ثم يعود مسروراً بعدما يكون قد قصّ شعره بطريقة غريبة أو اشترى بطيخة أو كلباً، فيضحك سعد وهو يحكي: "الولد يعذّبني بخوفي عليه... عفريت".
حياة سعد دائما كتابة ملقاة على قارعة طريقه، ولكن سعد لا يفتعل كتابة، بل يترك كل الحكايات قريبةً من فنجان قهوته، ويحكي عن نهر النيل أو عزبة الجسر أو تلك البنت التي تحجل على أول القرية أو مدافن القاهرة وأفاعيل التربي وتأجيره المقابر في قصته الجميلة "الدفنة". سعد زاهد كتابة وزاهد حياة، ويزهد حتى في هوس المكاسب وطرائق اللحاق بها، سعد لا يحاول اللحاق إلا بسعد أو آخر قطار يخرج من محطّة مصر بعد الفجر إلى طنطا. فقط يجلس كملك، حينما يأخذه الحنين إلى القاهرة التي يحترسها، صباحاً في المقهى ينتظر رؤية الأصدقاء في أثناء كانت القاهرة هي القاهرة وساعات الانتظار جميلة والحكي له سواقيه. انكسرت السواقي، سواقي الكلام، وخاصة بعدما مات يوسف إدريس الذي كان يحبّه لذلك الصفاء الذي يمتلكه سعد. مات يوسف إدريس وقبله أمل دنقل، ومات أغلب أصدقاء سعد، فانكسرت أغلب أجنحته في القاهرة التي يحبّها ويحترس أيضاً منها، فاكتفى بابن أخيه سامح المريض نفسيا بقريتهم "شبشير الحصّة".
زاهد كتابة جاءت إلى القاهرة ليلاً من طنطا، ثم ودعها غير آسف على نجومها الزاهرة ومكاسبها، واكتفى بالمقاهي الغامضة وشرب القهوة بطنطا حول السيد البدوي والنسيان بمنادمة الأحبة إن وجدوا.
آسف، يا سعد، فقد تركت أنا القاهرة من سنوات سبع، أنا الذي لم أحترس منها مثلك أبداً، وكأنني كنت أعبرها ولا أراها ولا حتى أحدّق في مصيري فيها، تركتُها كي أتأمل عيون اليمام وهو حيران فوق الأسطح، تركتُها كي أتأمّل وردةً تشبه جرحي، لأنني أبداً لا أعرف جرحك وخباياك وصمتك، تركتها لأن لي بقية حكايةٍ وبحثٍ عن بنتٍ حجلت لك على أول القرية، وكأنها كانت تحجل لي. تركتها كي أتأمّل صيص الحمام وهو يتلوّى تحت صدر أمه بعد الفقس في الشمس، وأنا أقول: ها أنت الآخر تدخل تجربة الكون حيراناً مثلنا أيام كنّا نننظر محبّتنا تحت سماء القاهرة التي كنت تألفها يا سعد وتحترسها. آسف، يا سعد، على فراقك من سنوات من دون أن أقول لك: قد لا نجلس سوياً يا سعد في هذا المكان مرّة أخرى.