من السيسي للحوثي: فن مداعبة الانقلابات
كان رجب طيب أردوغان، طوال الوقت، يعتبر القطيعة مع عبد الفتاح السيسي موقفًا مبدئيًا وأخلاقيًا، وليس فقط مجرّد تناقض سياسي جذري، بين دولةٍ تخلصت من ميراثٍ طويلٍ ومرير من الانقلابات العسكرية، ونظام عسكري استولى على السلطة، عن طريق انقلاب دموي، مصحوب بجرائم ضد الإنسانية.
كانت المملكة العربية السعودية، طوال الوقت، ترفض التفاهم مع جماعة الحوثي في اليمن، وترى في هذا الرفض تعبيرًا عن موقف أخلاقي وقومي وشرعي، تبلور في تشكيل تحالف عسكري عربي إسلامي ضد ما اعتبرته محاولة اختراقٍ إيرانيةٍ للأمن القومي العربي، بل وحشدت السعودية الجميع للحرب على ذلك "الانقلاب الطائفي" على ثورة الشعب اليمني، وعلى المصالح العليا للأمة العربية، والقيم الإنسانية.
حدث ذلك قبل أكثر من سبع سنوات، حيث كان واضحًا لمن يملك بصرًا ويتمتع بحد أدنى من بصيرة، وكما سجلت في ذلك الوقت أن السيسي والحوثي هما وجها عملة الثورة المضادّة الرائجة تلك الأيام، لا فرق بينهما حتى إن قلت عبد الملك السيسي وعبد الفتاح الحوثي، لن تكون بعيدا عن الحقيقة. من هنان تبدو الدهشة من صدور أنات ألم من اعتداء الحوثي على مخرجات ثورة اليمن، من أولئك الذين ساعدوا السيسي على حرق بواكير حالة ديمقراطية أوجدتها الثورة في مصر.
بعد هذه السنوات الثماني، وعلى ضوء المواقف العتيدة خلالها، يبدو ما يحدث أمامك الآن شيئًا أقرب إلى الخيال، إذ تندفع تركيا أردوغان بحماس شديد في اتجاه تفاهمات وصفقات ومصالحات ومصالح مع مصر السيسي، في عملية سياسية تتخذ أشكالًا عدة، أبرزها ما يجري مع القنوات المصرية التي كانت تبث من اسطنبول خطابًا معارضًا بقوة لانقلاب السيسي، يبدو وكأنه تعبير صريح عن تلك النظرة الأخلاقية والسياسية والإنسانية الصارمة التي كان يرى بها أردوغان الانقلابات العسكرية، وعلى رأسها انقلاب السيسي.
ما يحدث مع هذه القنوات، وفي ضوء المعلن من الإيضاحات الرسمية، وشبه الرسمية التركية، يقول إن قرارًا تركيًا قد اتخذ بالانفتاح على مصر السيسية، فرض على هذه القنوات أن تُدخل تعديلات جوهرية على خطابها الإعلامي، على النحو الذي يعرّض هذا الانفتاح للخطر، وخصوصًا في هذه المرحلة الدقيقة من عمره، إذ لا يزال أشبه بعجينةٍ طريةٍ لم تشتد ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، وإن كان الجزء الظاهر من الصورة يقول إنها تفاهمات سياسية حتمية تتعلق بضرورات اقتصادية ملحّة في شرق المتوسط، حيث يفرض الغاز نفسه حاكمًا للشرق الأوسط، كما كان النفط هو الحاكم الأول في القرن الماضي.
مطلوبٌ من هذه القنوات أن تنقلب على نفسها، وتبدّل خطابها الزاعق على مدى السنوات الماضية، فيما تبدو وكأنها عملية فض على البارد، تفرض عليها أن تبقى تحت حصار الرقيب وتعليماته وعقوباته، إن لزم الأمر، حتى تنكمش شيئًا فشيئًا وتخفض صوتها رويدًا رويدًا، حتى تذوب وتتلاشى بمرور الأيام، أو يصبح ماؤها وهواؤها غورًا، لا طلب عليه، ويبقى الحزن والشفقة من الجمهور المتعاطف معها، والشماتة المنحطة، وادّعاء النباهة من خصومها.
ولو نظرت من عدسة 2013، تشبه المسألة عملية فض من دون عنف وسلاح ودماء، كان هناك من يأمل أن تتم مع اعتصام ميدان رابعة العدوية، ويضع هذا الأمل في مبادرات ووساطات، ألقى بها جنرال الانقلاب من النافذة، بتعبير القافز من سفينة الانقلاب مبكرًا، محمد البرادعي.
في المحصلة، يبدو السيسي رابحًا أول مما جرى، إذ لا يمكن اعتبار انفتاح أنقرة المتحمس عليه سوى إقرارًا بالأمر الواقع، وإسباغًا لشرعية عليه وعلى نظامه، عابرة للمتوسط قادمة من نظام أردوغان.
في اليمن، تفعل السعودية الشيء نفسه، إذ تعرض على انقلاب الحوثي، وكلها أمل ورجاء في القبول، ما سبق وأن كانت تعتبره قبل ثماني سنوات عارًا عليها وعلى العرب والمسلمين، وتنتظر من قائد الانقلاب الطائفي أن ينظر بعين العطف والرضا على المبادرة المقدمة منها أول أمس، والتي تمنحه شرعية واعترافًا وإقرارًا بأن الشريك الأكبر والأقوى في الكعكة اليمنية.
صحيحٌ أن المعلن من تركيا الأردوغانية أنها ضد الانقلابات على طول الخط، ومع ثورات الشعوب والديمقراطية، فيما أن المعلن والمعلوم عن السعودية أنها ضد الثورات الشعبية ومع الاستبداد وضد الديمقراطية على نحو مبدئي قاطع، غير أن الموقفين يلتقيان هنا في مفارقة عجيبة، في تصالح مع انقلابين، أحدهما عسكري والآخر طائفي، بعد عداء طويل.
السؤال هنا: هل يمكن اعتبار كل ما يدور أمامنا وحولنا مشاهد من نهاية الربيع العربي؟ من عندي: الإجابة بالقطع لا، بل ربما تكون بداية أخرى، أو قيامة. وهذا موضوع نستكمله لاحقًا