من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا
التاريخ لا يعيد نفسه، بل يكرّر الأحداث لأسباب عدة، قد تكون جيوبوليتيكية في بعضها وأيديولوجية في بعضها الآخر. لا يعني أن قتال قبائل في غابر الأزمنة على واحة مياه وسط الصحراء، ثم قتال بلدين أو أكثر على الواحة نفسها في أيامنا الحالية، مجرّد إعادة تاريخية. كل ما في الأمر أن الصراع لم ينتهِ، ولن ينتهي سوى بحسم ملفه، باتفاقٍ بين طرفين، وإلا فإن الرابح اليوم قد يتحوّل إلى خاسر في الغد، والعكس أيضاً. وإذا كنا نعتبر، مثلاً، أن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) شهدت معارك دموية بين أطرافها، يخسر بعضهم مدينة ثم يستعيدونها، فإن الهامش الزمني بين معركة وأخرى في حرب "الواحة الصحراوية"، مثلاً، هو الذي يخلق الفرق، مع ما تحتويه من تكثيف بشري وتقني وتحوّلات ديمغرافية واقتصادية.
هنا، لا يمكن القول إن صراع الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، قد انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي، واستطراداً سقوط دول حلف وارسو، بل يُمكن القول إن روسيا، الوريثة الشرعية للسوفييت مع بعض التعديلات الأيديولوجية، عملت أيضاً على إيجاد تكتّل مواجه للغرب. الخريطة السياسية لم تتغيّر، بشكلها القاريّ الأوروبي أقلّه، في ظل احتوائها ثرواتٍ عدة، غير أن بعض هذه الدول في أوروبا الشرقية تحديداً أنزلت العلم الأحمر، وأعلنت انضواءها في "صفوف العالم الحرّ". والفجوة التي أحدثها انهيار السوفييت في التسعينيات، ودامت نحو عقدٍ، سمحت بتغلغل حلف شمال الأطلسي بقوة في المواقع السوفييتية السابقة. لكن المشكلة لم تندثر: كيف يُمكن احتواء روسيا، وعدم قيام إمبراطورية جديدة، شبيهة بالرايخ الألماني والإمبراطوريتين اليابانية والإيطالية؟
في الواقع، الشروط التي بُني عليها مسار الحركة السياسية في العالم نابعة من نتائج الحرب العالمية الثانية. لذلك، أسقط الأميركيون الذين تدخلوا في الحرب اليابان، وأنشأوا قاعدة عسكرية فيها، وشاركوا في إسقاط ألمانيا وإيطاليا وأنشأوا قاعدتين لهما فيهما. في المقابل، ساهم دعمهم السخيّ السوفييت، عبر نقل النفط والمواد الخام إلى الموانئ السوفييتية، في بناء ترسانة عسكرية لجوزيف ستالين، استطاع فيها رفع شعار "لا أرض خلف نهر الفولغا" وترجمة تحدّيه أدولف هتلر في ستالينغراد، ثم مطاردة الألمان إلى برلين. توقف التعاون الأميركي ـ السوفييتي عند هذا الحدّ، ولم تُنشئ واشنطن أي قاعدة لها في موسكو.
هنا، تبدو روسيا "ملفاً عالقاً"، كان لا بد من السيطرة عليه بعد سقوط السوفييت، ليس عبر افتتاح متجر ماكدونالدز في موسكو فحسب، بل أيضاً عبر تقديم نوع من "خطة مارشال 2" التي قدّمتها الولايات المتحدة لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأدّت إلى إعادة إعمارها. لم يحصل أي مشروع من مشاريع الدعم الاقتصادي لروسيا. لم تكن هذه الخطوة خطيئةً بالمعنى السياسي، بقدر ما تعني أمرا من اثنين: إما أن عدم تقديم الدعم المالي لروسيا الجديدة بعد تفكّك السوفييت مقصود، بغرض "إيجاد عدو جديد على أنقاض عدو سابق"، أو لأن قصر النظر لدى دول "العالم الحرّ"، في ظل الأحداث المتلاحقة بين أواخر ثمانينات القرن الماضي ومطلع تسعينياته، دفعها إلى الاعتقاد بأن تحوّلات أوروبا الشرقية ستمنع أي تفكير مستقبلي في إعادة إحياء شكل جديد من "الاتحاد السوفييتي". حسناً، أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان وبيلاروسيا نماذج فاقعة عن عاقبة قصر النظر.
في المقابل، تمتّع جوزيف ستالين بأفضلية قياساً على فلاديمير بوتين. في لحظةٍ ما، كان الغربيون يحتاجون حليفا في الشرق، قادرا على مدّهم بالعناصر البشرية واستنزاف ألمانيا. لذلك، أدّت أولوية الحاجة الغربية لستالين إلى غضّ النظر عما يحصل في الداخل السوفييتي. أما بوتين، فلا حاجة غربية له بقدر ستالين، لغياب "العدو المشترك" أولاً، ولأن لا نظام حزبياً في روسيا ثانياً، كما الشيوعية السوفييتية، بل بوتينية قد تنتهي بانتهاء قائدها.