من الأرض إلى الأرض
ليوم الأرض بداياتٌ عديدة. أرّخه بعضُهم بالإضراب الشامل الذي كسر الخطوط الملوّنة التي تكبّل فلسطين، وتقسمها إلى "داخل" و"خارج". وأرّخه آخرون بالشهداء الستة الذين تشرّبت الأرض دماءهم فباتت علامة انطلاقة جديدة لفلسطين. وأرّخه بعض ثالث بإدراك الفلسطينيين هويّتهم التي حاولت إسرائيل دفنها، وخصوصا بين أبناء أراضي 1948، لنا أن نكتشف بداياتٍ أخرى، ولنا أن ندمج البدايات كلها كي نحاول التأريخ لأحد أعظم أيام التاريخ الفلسطيني الحديث. لعل ما حدث بداية واحدة حقًا: الأرض، بكل بساطة. كان الإضراب، وكان الاستشهاد، وكانت الهويّة، وكانت البدايات كلّها من الأرض وإليها.
يتلعثم "غوغل" قليلًا حين نبحث عن "يوم الأرض"، فيعطينا نتائج مختلطة عن يومين للأرض: أولهما، يوم حماية البيئة، 22 إبريل/ نيسان، حيث "الأرض" هي الكوكب كله (Earth Day)؛ وثانيهما، يوم الأرض الذي نتحدث عنه هنا، 30 مارس/ آذار 1976، حيث "الأرض" هي فلسطين (Land Day). لعثمة "غوغل" مفيدة هنا حين منحنا، عن غير قصد، تمييزًا ليومنا عن يوم العالم، ليصبح "يوم الأرض الفلسطيني". هنا، أيضًا، ندرك أن البدايات العديدة بداية واحدة فعليًا: استعاد الفلسطينيون، كلّ الفلسطينيين، هويتهم، وماهيتهم، ووحدتهم، ودمهم، وصوتهم، وحراكهم، بسبب هذه الأرض، أو بسبب تغييبها لو شئنا الدقة.
تهوّر سلطات الاحتلال في رفع وتيرة مصادرة الأراضي اجتمع مع اكتمال بواكير الهوية السياسية الفلسطينية، فاندلعت الاحتجاجات غير المسبوقة
ما من تحليل جازم لأسباب اندلاع احتجاجات يوم الأرض. ثمّة احتجاجات متفرّقة أصغر سبقت هذا اليوم، غير أن اجتماع تلك الاحتجاجات في احتجاج شامل واحد بقي عصيًا على تفسير شامل. خمّن باحثون أنّ السبب تراكم التجربة السياسية للفلسطينيين، أكانت داخل الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، أو داخل تجمّعات سياسية أصغر حجمًا وأعمق تأثيرًا، مثل حركة "أبناء البلد". وردّ باحثون آخرون السبب إلى انتهاء الحكم العسكري الإسرائيلي في "أراضي 48" قبيل هزيمة حزيران 1967، ما منح الفلسطينيين حرية أكبر في التجمّع والتكتّل. السببان متضافران، ويمثّلان انطلاقة سيرورة تشكّل الوعي الفلسطيني السياسي المنظّم الذي بدأ يكثّف تركيزه على العمل على مستوى القواعد (grassroots)، وفي العمل في المجالس المحلية والبلديات، حيث الاحتكاك اليومي مع الهموم السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية للفلسطينيين في آن. للمفارقة، كانت هزيمة حزيران رافدًا آخر في سيرورة تكوّن الوعي السياسي لدى الفلسطينيين بوصفهم جماعة واحدة، اتحدت ضمن ظروف خاصة تحت الاحتلال، بحيث زالت الحدود القديمة التي امتدت عقدين، وزالت معها الانقسامات قبل - الوطنية التي كانت تجسّد "هويّة متخيّلة" لدى الفلسطينيين، قبل أن تتبلور في السبعينيات ضمن هوية وطنية واحدة بهذا القدر أو ذاك.
ولكنّ تراكم الوعي لا يفسّر المسألة بأكملها. ثمّة عنصر ناقص نبشه الفلسطينيون في أثناء رحلة تشكيل الوعي، ليصبح القاسم المشترك الأكبر الذي يوحّدهم: الأرض. كانت عملية قضم الأراضي الفلسطينية متواصلة عقودا، بيد أنّ تهوّر سلطات الاحتلال في رفع وتيرة مصادرة الأراضي اجتمع مع اكتمال بواكير الهوية السياسية الفلسطينية، فاندلعت الاحتجاجات غير المسبوقة. لم يعد الأمر محض "نزاع" أو حتى "صراع" بين طرفين، بل أمسى أقرب إلى معركةٍ وجوديةٍ أساسها الأرض. كانت الأرض، تحديدًا، العنصر الذي ينقص معادلة الانفجار الفلسطيني، ولمّا اكتملت المعادلة انقلبت الصورة إلى معركة وجودية لا سبيل إلى التوفيق بين طرفيها. كانت "إيريتس يسرائيل" الطرف الأول المهيمن الذي يواصل توسّعه بشراهة، بسبب عدم وجود طرف مقابل مضادّ، وحينما التحم مفهوم الهوية الوطنية بالوعي السياسي لدى الفلسطينيين، صارت المعادلة أوضح وأقوى. أرض مقابل أرض. الفارق أنّ الأرض الأولى، "إيريتس يسرائيل"، أرض ميثولوجية لا سبيل لإحيائها أو خلقها إلا بالقوة، بينما الأرض الثانية، أرض فلسطين ("من النهر إلى البحر") أرض بشرية تمثّل عنصرًا جوهريًا في الحياة اليومية لمعظم الفلسطينيين، ولكنهم غفلوا عنها لأنها، تحديدًا، موجودة في جميع لحظات يومهم. وحين فقدوها، استشعروا النقصان، فاستعادوها بأجسادهم.
ليس مصادفةً أن تكون الأرض السبب المباشر والجوهري الذي يوقظ الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية
ليس مصادفةً، إذن، أن تكون الأرض السبب المباشر والجوهري الذي يوقظ الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية. لا بد من وجودها كي تُشعل الاحتجاجات التي قد تتطوّر إلى ما هو أكبر. ثمة أسباب عديدة أخرى، ولكنّها لا تقوم مقام الأرض. القتل سبب، الإذلال سبب، التمييز سبب، العنصرية سبب، غير أنها أسبابٌ لازمة، ولكنْ غير كافية. في المقابل، الأرضُ سببٌ لازمٌ كافٍ، وإنْ كان توقيت اكتمال اللحظة عصيًا على التنبّؤ. ليس هذا بمقدور الإسرائيليين، ولا بمقدور الفلسطينيين. قد يتواصل قضم الأراضي عقودًا، وقد يستمرّ الصبر سنوات، ثم يحدُث انفجار مفاجئ. يصحّ هذا على جميع الاحتجاجات الفلسطينية منذ السبعينيات، منذ يوم الأرض وصولًا إلى هبّة الشيخ جرّاح في مايو/ أيار 2021، مرورًا بالانتفاضتين. اللافت في هذه الاحتجاجات كلها أنها لا تكتمل إلا حين يتحرّك فلسطينيو الداخل تحديدًا، وهم المعرّضون لأشرس حملات الأسرلة. يستشعرون نقصان الأرض/ الهوية فينتفضون لأسبابٍ قد تبدو للمراقب الخارجي نافلة، أو حدثت من قبل ولم تُثر ردة فعل. ثمّة غموض يكاد يكون ضبابيًا لمن لا يدرك معنى الأرض لدى الفلسطينيين. لمَ هذا البيت دون سواه؟ لمَ هذه المدينة دون سواها؟ الإجابة ببساطة: لأنّ النقصان بات لا يُطاق.
ثمّة إغراءٌ دائم لقلب المجازات الميثولوجية حين نتحدّث عن فلسطين. إغراء لاستعارة الأسطورة التوراتية، ولكن بعد أنسنتها وفلسطنتها لتصبح سلاحًا ضد الأسرلة التي تستعير، هي الأخرى، أساطيرها التأسيسية، وتمنحها بعدًا بشريًا مناقضًا. "حتى تعود إلى الأرض، فمنها أُخذتَ لأنّك تراب، وإلى التراب تعود"؛ الأرض أشبه بلعنة بالنسبة إلى الفلسطينيين، لعنة لا فكاك منها، لأنها جزءٌ من الوجود، بل لعلها هي الوجود. لعنة هي كلّ البدايات، وهي النهاية الواحدة.
يفتتح "القاموس المحيط" تفسير مفردة "أرض" بالقول إنها "جمعٌ بلا واحد"؛ لعلّ الأمر أكبر من مجرّد تفسير لغويّ. لا تكون الأرض أرضًا إلا حين تكون جمعًا، لا نكترث إنْ كان له مفردٌ أم لا، لأنّ المفرد اتّحد مع المفرد، وما عاد له معنى بغير اجتماعه مع غيره.