من أجل إنقاذ سورية
لا يمكن اختزال المشهد في حلب وحماة (وتحديداً في حماة) في بُعده الاستراتيجي - العسكري أو حتى السياسي، فهنالك كمّ كبير من الدلالات والمعاني الرمزية والسيكولوجية والإنسانية الدراماتيكية، خاصة في لحظة اقتحام سجن حماة المركزي وإخراج المساجين، وكم لهذا السجن من قصص وحكايات وأساطير وروايات! وكم لحماة من رمزية تاريخية (معاصرة) وسياسية، ليس فقط في المشهد السوري، بل المشهد العربي عموماً، منذ ستينيات القرن الماضي، مروراً بالمجزرة المعروفة في العام 1982، ولاحقاً مع قصة الثورة السورية 2011، وأهازيج إبراهيم القاشوش الشهيرة، الذي انتهى به الأمر- كما تذكر قصص إعلامية- منحوراً وحنجرته اقتلعها شبّيحة النظام السوري حينها!.
وبالرغم من أنّ النظام السوري تقهقر بسرعة أمام ضربات المعارضة المسلّحة، فذلك لا يعني (بالضرورة) نهاية المطاف، إلاّ إن حدث انهيار داخلي سريع، ولم يجد حلفاء النظام وقتاً أو مجالاً للتدارك. مع ذلك، حتى وإن حدث ذلك، فإنّ البنية الطائفية الصلبة في سورية ستجعلنا أمام سيناريو حرب داخلية أو تقسيم جديد على حدود طائفية عرقية، وليس أمام انهيار نظام ديكتاتوري وبروز نظام ديمقراطي، وهو السيناريو (الحرب الداخلية) الذي تؤيده نظريات التحوّل الديمقراطي عموماً، سواء ما كتبه دنكوارت روستو (شدّد على أهمية الوحدة الوطنية في أي عملية انتقال ديمقراطي)، وما كتبه أنصار نظرية التحديث السياسي من اعتبار "الهيرموني" السياسي والثقافي والمجتمعي متطلباً مهمّاً لنجاح التحوّل الديمقراطي، وتجنّب الحروب الأهلية التي تنبثق من الشقوق الاجتماعية والثقافية والعرقية والدينية والتخوّفات المتبادلة بين هذه الشرائح.
ثمّة تحدّيات عديدة، إذاً، أمام المعارضة السورية المسلّحة اليوم، وحتى تكون لدينا ضمانات بألا نستعيد السيناريو الافغاني، بصورةٍ أو بأخرى: الأول، ضرورة وجود تصوّرات واضحة لليوم التالي، ولصورة نظام الحكم السوري، ما يبعد شبح نماذج "طالبان" أو حكومات إسلامية أصولية من مخيّلة السوريين والمجتمعيْن، الدولي والإقليمي، ويؤكّد أنّ النظام البديل ديمقراطي، يقبل الجميع، وأنّ الأقليات وحقوقها وأدوارها موجودة وحاضرة في المعادلة المقبلة، فمعروف أنّ النظام السوري استخدم ورقة الإسلاميين والإرهاب لتخويف العالم من أي بديل، ولعلّ هذه المخاوف هي التي وقفت وراء اختراعه مفهوم "سورية المفيدة" التي تضم الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية في مواجهة الأغلبية السنيّة، التي وُسمت بصورة عامة بالإرهاب والتطرّف والأصولية!
يتمثل التحدّي الثاني في مصير هيئة تحرير الشام، التي وبالرغم من أنّها مرّت بتحوّلات أيديولوجية بنيوية، وفصلت نفسها من "القاعدة"، ثم تخلصت من نسبة كبيرة من أنصار "القاعدة"، الذين ذهبوا نحو "حرّاس الدين"، وساهمت الهيئة في التخلص من عدد كبير منهم (بالمناسبة، منهم قيادات أردنية جهادية معروفة)، وهي اليوم تطرح خطاباً مختلفاً وجديداً يحاول تقديم ضماناتٍ- مع ذلك، يشكّل بقاء الهيئة نفسها تحدّياً كبيراً وعنصراً من عناصر القلق، كما أنّها لم تُمحَ من قوائم الإرهاب الأميركية والغربية، فالحل يكمن في أن يكون هنالك تخطيط لحل الهيئة، وتحوّلها إلى أحزاب سياسية متعدّدة، مع نهاية النزاع الحالي.
يتمثل التحدّي الثالث في مصير مؤسسات النظام والجيش والقوات السورية وحزب البعث السوري. ومن المهم أنّ الهيئة أرسلت ضمانات إلى السفارات الغربية بأنها لا تنوي أن تحلّ الدولة ومؤسّساتها، وهذا جيد. لكن من الضروري الوصول إلى تفاهمات مع أطراف داخل بنية النظام الحالي، القوى الراهنة، بحيث تعطى ضمانات لهم ولمستقبلهم، والتركيز على مفهوم العدالة الانتقالية، وتجنب موجات الانتقام، وهو أمر يعدّ في النظريات الديمقراطية، أيضاً، بمثابة متطلّب مهم من متطلّبات نجاح العبور نحو النموذج الديمقراطي، لأنّ القوى القديمة لا تتمثل فقط في رأس النظام، بل في شبكة كبيرة من الموظفين والبيروقراطيين والقوى والمستفيدين والزبائن وغيرهم. سيشعر جميع هؤلاء بالرعب ويقاومون إذا لم يكن هنالك خيار آخر أمامهم. لذلك من الضروري منحهم مخارج سياسية وإنسانية وضمانات أمنية معقولة، واعتبارهم جزءاً من المرحلة الجديدة، كي يكونوا قادرين على تقبّل الانتقال من مرحلة ونظام إلى مرحلة ونظام آخر.
يمثّل التقدّم العسكري الراهن فرصة لإنهاء حكم ديكتاتوري دموي، لكن ثمة شروط للبديل، كي لا تنقلب الفصائل نفسها على بعضها، كما حدث في الحالة الأفغانية، أو حتى تتحوّل إلى حرب داخلية وطائفية. ومن هنا، فإن صيغة سياسية داخلية برعاية دولية - إقليمية هي الضمانة الرئيسية لجميع الأطراف، والدخول في مرحلة سياسية جديدة، ربما دولة فيدرالية تعطي البنى الاجتماعية والسياسية المختلفة ضماناتٍ وتحافظ على حقوقهم..