"انتصار" هيئة تحرير الشام ونموذج "ما بعد الجهادية"

31 ديسمبر 2024

مقاتلون من هيئة تحرير الشام قرب كنيسة في دمشق (27/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

بالرغم من تأكيد أحمد الشرع (أبي محمد الجولاني سابقاً) على طيّ صفحة الماضي، والتزام الحركة بمنهجية جديدة ذات طابع سوري، وهو ما تجلّى في خطاب أيديولوجي وسياسي جديد بالكلية، مختلف تماماً عمّا هو مطروح في أدبيات الحركات الجهادية العالمية كلّها، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي أنّ جذور الحركة وسياقاتها، والوجه الآخر لها، يمثّل نموذجاً جديداً في الحركات الجهادية، كما يصفه أحد أبرز منظّري الحركة نفسها، عبد الرحيم عطّون، في محاضرة قديمة له عن المسار الثالث المرتبط بـ"الجهادية المحلية"، أو المعتدلة على حدّ وصفه، وقد جعل حينها هذا المسار نموذجاً جديداً تمثّله الهيئة وحركة طالبان (بخاصّة بعد انسحاب القوات الأميركية في أفغانستان وعودة طالبان إلى الحكم)، وضمّ إليهم حركة حماس بوصفها حركة جهادية وطنية.
من المعروف أنّ هيئة تحرير الشام قد فكّت بصورة مدهشة تحالفاتها مع فرعي السلفية الجهادية العالمية الرئيسين؛ بدايةَ عندما تنكّر الجولاني لعلاقته بـ"داعش"، ورفض مبايعة أبو بكر البغدادي في عام 2013، الذي أعلن عن قيام الدولة الإسلامية في العراق وسورية (قبل أن تتحوّل إلى الخلافة لاحقاً)، مستعيناً حينها بأيمن الظواهري، زعيم "القاعدة" (خاض المعركة الأيديولوجية بقوة نيابة عن الجولاني)، والثاني "القاعدة" نفسها، التي أعلن بعد أعوام قليلة الجولاني انفصاله عنها، وزعم إنّ ذلك جرى بالتراضي، لكن اكتُشِف لاحقاً أنّ الظواهري لم يكن موافقاً، بل غضب أشدّ الغضب، وانتهى الأمر إلى حرب أيديولوجية وإعلامية أخرى بين الرجلَين، وأكثر من ذلك تصفية وجود "القاعدة" وقياداتها داخل هيئة تحرير الشام، وانشقاق تنظيم "حرّاس الدين"، الذي مثّل آخر قلاع القاعدة في الشرق الأوسط، وانتهى إلى مجموعة معزولة محدودة، في إدلب نفسها، ساهم تنظيم هيئة تحرير الشام بالقضاء عليها، وما يزال من تبقّى من قادتها تحت الإقامة الجبرية، غير المُعلنة، هناك.

تتحدّث أوساط دبلوماسية عربية نقلاً عن الشرع بأنّه ينظر إلى "النموذج التركي" بوصفه النموذج المناسب أكثر للحالة السورية

في مقابل الاتجاهين السابقين والانشقاق الأيديولوجي والتنظيمي عنهما، بدت الهيئة معجبةً ومؤيّدةً لنموذج مختلف تماماً، وهو نموذج طالبان في أفغانستان، التي أعلنت منذ عودتها إلى حكم أفغانستان، استقلاليتها عن القاعدة والجهادية العالمية، بل قامت "طالبان الجديدة" بعملية استدارة كبيرة في علاقتها بالعالم، من خلال اتفاقها مع الأميركيين (في مفاوضات الدوحة، قبل وصولها إلى الحكم) عن عدم استخدام أراضيها ضدّ مصالح الولايات المتحدة والغرب، وهو الالتزام الواضح أنّ الحركة ملتزمة تماماً به، فبالرغم من مباركة الظواهري (للحركة انتصارها وعودتها إلى الحكم)، قبل مقتله نفسه في كابول بقصف أميركي (2022)، إلاّ أنّ عمليات "القاعدة" انطلاقاً من أفغانستان وغيرها تقريباً توقّفت، وانتقلت قيادة "القاعدة" السرية (يتولى قيادة التنظيم حالياً على الأغلب، سيف العدل، وهو موجود في طهران)، وقيادة التنظيم حالياً، بعد مقتل أغلب قادة الصف الأول، وتراجع زخمه ومقتل الظواهري، هي في حالة قريبة من "الكوما" الأيديولوجية والسياسية والحركية.
في ضوء تلك السياقات والتطوّرات والتحوّلات، ما الذي يعنيه انتصار تنظيم هيئة تحرير الشام ونجاحها في إسقاط نظام الأسد، والوصول إلى القوة أو السلطة، على الأقل راهناً، على صعيد الجهاديات العالمية؟... في البداية، من المفيد الاطلاع على مواقف الحركات الأخرى من هذا "الانتصار"؛ الطرف الأول الذي بادر إلى توجيه النقد والتخوين والاتهام للهيئة هو تنظيم داعش، الذي سبق أن دخل في مواجهاتٍ أيديولوجيةٍ ومسلّحة مع الهيئة، ووصلت الأمور بينهما إلى التكفير والتضليل الرسمي، إذ صدّرت مجلة التنظيم الرسمية، النبأ (عدد 1473) بمقال "تدجين وتجنيد"، افتُتح بالقول "لم تعد هنالك حاجة ملحّة إلى تجنيد مليشيات جديدة لحرب المجاهدين، فقد وصلت أساليب (مكافحة الإرهاب) إلى مرحلة متقدّمة يتم فيها احتواء وتدجين (جهاديين سابقين) للقيام بالمهمة، بما يضمن مصالح النظام الدولي الكفري، ويشبع رغبة المفتونين بالحكم، رأينا ذلك في نسخ عديده أبرزها (حكومة طالبان) وأحدثها (حكومة الإنقاذ)، وكلاهما دخل القصور الرئاسية بموافقة الجهات المعنية". واعتبر المقال أنّ عملية تدجين هيئة تحرير الشام وتجنيدها مرّت بمراحل طويلة وطُبخِت على نار هادئة في أقبية المخابرات ومراكز الدراسات، ولم يُسمح للهيئة بالوصول إلى إسقاط النظام السابق إلاّ بعد اختبار البديل الجديد، وعلى حدّ تعبير المقال "محاربة الشرع بـ (الشرع)".
في الضفة الثانية للجهاديين؛ بالرغم من أنّ "القاعدة" لم تصدّر بياناً حتى اللحظة (أو لم يجد كاتب السطور شيئاً يذكر في هذا السياق)، إلاّ أنّ الموقف من الواضح أنّه أكثر تعقيداً وارتباكاً من موقف "داعش"، فهيئة تحرير الشام انشقّت عن "القاعدة" ودخلت معها في مواجهات أيديولوجية وصفّتها في سورية تقريباً، إلاّ أنّ "القاعدة" مرّت هي الأخرى بتحوّلات وسياقات صعبة، وقامت بعملية تكيّف أيديولوجي أكثر من مرةّ، كشفتها وثائق أبوت أباد، واعتُبرت جبهة النصرة في البداية انعكاساً لتلك التحوّلات. وفي المحصلة، انتهى الأمر إلى القطيعة مع الهيئة، لكن من جهة أخرى، لم تجرؤ "القاعدة" على انتقاد "طالبان"، وأيّدت عودتها إلى الحكم، بالرغم من إدراك الظواهري حينها أنّ الثمن هو فكّ الارتباط الاستراتيجي بينه وبين النسخة الجديدة من "طالبان"، وأعلن تأييده عودة الحركة إلى الحكم، قبل أن يُقتَل، وما تزال قيادات القاعدة الرئيسة اليوم في طهران، التي مُنيت بهزيمة في سورية، فأيّ تصريح أو موقف مباشر ضدّ هيئة تحرير الشام قد يؤخذ وكأنّه مرتهن بوجود القيادة الحالية في طهران.
بالرغم من ذلك، لم يتردّد أحد أبرز منظّري السلفية الجهادية، أبو محمد المقدسي، الذي يمثّل الأب الروحي للجهادية التقليدية، وكان مباركاً ومؤيّداً لتنظيم حرّاس الدين، الذي انشق عن الهيئة، من توجيه انتقادات حادّة (عبر حساب سرّي مقرّب في إكس) لهيئة تحرير الشام، وسلوكها بعد الانتصار، بالرغم من أنّه لم يُخفِ فرحته من هزيمة وإسقاط نظام الأسد، لكنّه في المقابل أبدى تخوّفه من تخلّي الهيئة عن مشروع تحكيم الشريعة والجهاد ضدّ إسرائيل، والتصالح مع القوى الدولية والعلمانية المحلّية، ومن ضمن رسائل قصيرة وعديدة يقول الحساب المقرّب من المقدسي في "إكس": "لا تظنن أنّك بانبطاحك لعباد الصليب غربيين وشرقيين ولينك لأنصار النظام الساقط وتوسيعك للعلمانيين والعلمانيات وطراوتك مع النصيرية والدروز أنهم سيحترمونك وينصرونك ويثبتوا عرشك، إن توقعته فأنت في قمة الحماقة، ولم تتعلّم من تجربة مرسي، من يحترمك وينصرك هو من بذل دمه حين وعدته بتحكيم الشرع".
لا غرابة، عندئذٍ، أن تكون حركة طالبان هي الطرف الرئيس في أوساط الحركات الجهادية من يبارك لهيئة تحرير الشام، بل يتواصل وزير خارجيتها (الأفغاني) مع وزير خارجية الحكومة الانتقالية الجديدة في سورية، أسعد الشيباني، مهنئاً ومؤكّداً الدعم، إذ إنّهما، وفقاً لتقسيم منظّر الهيئة، عبد الرحيم عطون، ينتميان إلى "التيّار الفكري" نفسه. مع ذلك، لم تتوقّف استدارات ولا تحولات السردية لدى هيئة تحرير الشام عند تخوم ما وصلت إليه "طالبان"، بل من الواضح أنّها تجاوزت ذلك كثيراً، بل أحدثت قطيعة أيديولوجية كاملة مع مسار الجهاديين، وانتقلت إن جاز التعبير إلى "ما بعد الجهادية"، أو على حدّ توصيف "داعش"، "الجهاديين السابقين". فخطاب الحركة الراهن لنظام الحكم القادم ولتصوراتها لعلاقتها مع المجتمع الدولي والأقليات والعديد من الملفّات السياسية الداخلية والخارجية هو خطاب منفصل بالكلية عن الجهادية القديمة، والجديدة حتى، التي تمثّلت في "طالبان"، إذ أصرّت الأخيرة، بالرغم من قبولها بفكّ الارتباط مع "القاعدة"، على مفهوم الدولة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، بينما أعلنت الهيئة أنّها تريد نظاماً يتوافق عليه السوريون جميعاً، لا أن تفرض نظامَ حكم إسلامي بالمعنى الكلاسيكي لدى الجهاديين.

لو قُدّر لتجربة هيئة تحرلاير الشام النجاح السياسي فستكون ملهمة للعديد من الحركات، ونموذجاً للتعلّم من قبل نماذج الإسلامية أخرى

عند هذا الحدّ الزمني المهمّ، تتحدّث أوساط دبلوماسية عربية نقلاً عن أحمد الشرع بأنّه ينظر إلى النموذج التركي، بوصفه النموذج المناسب أكثر للحالة السورية، والمقصود بالنموذج التركي (راجع مقال الكاتب: "سورية الجديدة.. الدين والدولة والتيار الإسلامي"، "العربي الجديد"، 17/12/2024) هو التحوّل الأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية، لحظة تأسيسه، من عقد مصالحة تاريخية وفكرية وسياسية بين الإسلام والعلمانية في التجربة السياسية، عبر اجتراح نموذج جديد بين الطرفَين، وعقيدة تقوم على قبول الأطراف المختلفة ببعضها، على غرار أحزاب وسط اليمين أو الديمقراطية المسيحية أو حتى المحافظة دينياً، مثل المحافظين الجدد، في الولايات المتحدة.
مثل هذه التسريبات الموثوقة عن تصوّرات الرجل وحركته، ويؤيّدها السلوك الراهن (نتحدث هنا عن الصعيد الأيديولوجي للسلوك السياسي وليس السلطوي للحركة)، تؤشّر إلى أهمية السياقات في تشكلات الأيديولوجيا والسرديات في خطابات وسلوكيات جميع الحركات الإسلامية، بأيّ نسخةٍ كانت جهادية أو معتدلة، وغيرها، بمعنى لو أنّ هذه التجربة قُدّر لها النجاح السياسي فستكون ملهمة للعديد من الحركات الأخرى، ونموذجاً للتعلّم من قبل التجارب والنماذج الإسلامية الأخرى، وإذا حدث العكس وانتكست التجربة، فإنّ البديل هو عودة الزخم لتيارات أو خطابات وسرديات إسلامية أخرى.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.