مناسبة عودة العام الدراسي... عن السؤال والحرية
بدأت أخيراً العودة إلى المدارس في دول كثيرة، ومنها سورية. ولهذا الموسم استحقاقاته على صعدٍ عديدة، منها الحكومي والرسمي، ومنها المجتمعي والأسري، إنما التناغم بين هذه الاستحقاقات، وتنشيطها بالتوازي، يختلف بين الدول الغنية والدول الفقيرة، بين المجتمعات المستقرّة وتلك التي تعاني من اضطرابات ومشكلات وأزمات، بين الأنظمة الديمقراطية وتلك الشمولية والديكتاتورية، وبين الثقافات أيضاً، وكذلك الوعي الفردي والجمعي بمفهوم التعليم وضرورته وأسسه وطرائق تقديمه وتلقّيه، والنتائج أو الأهداف المرجوّة، إذ لا يكفي أن يقول معظم الشرائح في المجتمع بضرورة التعليم، بل لا بد أن تقترن هذه المقولة بالوعي والإدراك والاهتمام الذي تحتاجه.
ماذا عن التعليم في سورية؟ قبل الدخول بالأسئلة عن النظام التعليمي وحاجته إلى التطوير، لا بد من تذكّر حقائق مرّة، عما آل إليه التعليم والمدارس في فترة الحرب الممتدة، وما آل إليه أكثر من جيل من السوريين، منهم من كان طفلاً، ومنهم من ولد في فترة الحرب، نسبة كبيرة من المدارس خرجت من الخدمة، إما بالقصف أو باستغلال أبنيتها لأغراضٍ أخرى، أو بتصدّعها وتحوّلها إلى أبنية متداعية لا تصلح لأي نشاط يُقام فيها، أو إلى أبنيةٍ متهالكةٍ بسبب انعدام الصيانة التي تحتاجها، من دون أن ننسى افتقار المدارس إلى الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء ومرافق خاصة بها، هذا قبل أن ندخل في لزوم العملية التعليمية من مخابر وأدوات تعليمية ومواد إثرائية ومكتبات ومراجع.
على مدى العقود الماضية، كانت العملية التعليمية تتراجع في سورية تحت تأثير الفساد والترهل الإداري والجنوح نحو سلطوية التعليم، مع توجيهها في أنساق تفكير خاصة، بعد تأطير المراحل العُمرية ضمن منظمات ملحقة بحزب البعث الحاكم، تبدأ من مراحل التعليم الأولى، الابتدائية، بمنظمة طلائع البعث، مروراً باتحاد شبيبة الثورة، وانتهاءً باتحاد الطلبة في المراحل العليا، يجري بواسطتها تأهيل الأجيال المعبّأة بالأفكار والشعارات العقائدية الفضفاضة التي يكرسها النظام الحاكم في وعي الجماهير، حول القضايا التي عليها أن تجعلها غايتها في الحياة، من دون وعي بهذه القضايا، وبالتالي إعداد كوادر تخدمه في ترسيخ حكمه مستقبلاً.
التعليم حقّ لكل إنسان، أقرّته الجمعيات والمواثيق الدولية، يكفله الدستور "نظرياً"، وحرية التعليم تضمن أيضاً حرية الآباء في ضمان التعليم الديني والأخلاقي لأبنائهم وفقاً لقناعاتهم الخاصة، وعلى الدولة احترام هذه الحرّية، فكيف يمكن تحقّق هذا الشرط في ظل وزاراتٍ تفرض مناهج دينية وقومية على الجميع، ليس فقط قومية، مع الإشارة إلى أن هذا الهدف يتحقق في سورية تحت مسمّى في المنهاج، اسمه مادّة القومية، كانت مكرّسة لفكر القائد ومنجزاته وأقواله التي على الطالب أن يحفظها كما الكتاب المقدّس، وشكّلت عقبة، بل عقدة نفسية لدى غالبية الطلاب بسبب عدّها أهم مادّة تتدخل درجاتها في المعدّل العام، كذلك الأمر بالنسبة إلى مادّة التربية الدينية.
أجيال من الأطفال السوريين تضمر بطونهم وعقولهم وخيالهم، بل قسم كبير منهم خارج المدارس وخارج الطفولة وخارج الزمن
قام نظام التعليم على التلقين، وراح هذا النهج يتمكّن من العملية التعليمية والتربوية حتى صار النمط الوحيد المعتمد في الواقع، وكأنه الصورة الأكيدة والحقيقية للتعليم، حتى صارت ظاهرة الملخصات هي اللبنة الأساسية لدى الطلاب الجامعيين، نجم عنه سوق مستحدث أخذ ينمو كمزارع الفطر حول الجامعات، يقدّم الخدمات الجامعية التي لا تتعدى كونها ملخصات يكتبها بعض الطلاب في المحاضرة، ويضعها في عهدة المكتبات التي تصوّر نسخاً عنها وتبيعها للطلاب، في خطوة تتوج "مسخ" عملية التعليم، وتعطيل العتبة الأولى من التفكير لدى الطالب الذي امّحت شخصيته، وصار دورُه أن يتلقى ما يقدّم له في المدرسة أو المعهد أو الجامعة، عدا المدارس والمعاهد الشرعية، من دون أن يمتلك حقّ السؤال، إلى أن غاب السؤال عن إدراك الطالب، وفي هذا تجميد للعقل البشري القائم على الشك من أجل المعرفة.
السؤال وكيفية تشكله وآلية طرحه، على الذات قبل الغير، أهم الخطوات وأولها في الفهم الذي يليه الابتكار، وأكثر ما يلزمه هو الحرية، التي بدورها أكثر المفاهيم ضرورة لبناء عقل سليم وفكر منتج ومجتمع حيوي، وهذا أهم ما كان المجتمع بحاجة إليه، في البيت، في المدرسة، في أماكن العمل، في الشارع، في المؤسّسات الحكومية، في المجالس التمثيلية، في كل مفاصل الحياة، لكنها كانت أكثر المفاهيم غياباً وتغييباً، بل سعت الحكومات المتتابعة في ظل حكم حزب وحيد يطرح نفسه قائداً للدولة والمجتمع، لتغييبه نهجاً أساساً في تمكين سلطة الحاكم، وسخّرت من جملة ما سخّرت، رجال دين يدعون إلى الطاعة والخنوع، كشرط من شروط الإيمان، بل كانت خطب الجمعة توزع على الخطباء والأئمة منجزة وجاهزة من قبل قصور الرئاسة أو المكاتب الحزبية والأمنية.
وبالنسبة إلى التعليم العالي، والحرية الأكاديمية التي يجب أن تتوافر فيه، فأمر يدعو إلى الإحباط، لأن الشرط الأساسي لتفعيل التعليم العالي، والأكاديمي، أن تتوافر الحرية لكل المنضوين ضمن هذا النطاق، من طلاب وأكاديميين، في متابعة المعارف والأفكار وتطويرهما ونقلهما من طريق الأبحاث أو التعليم أو الدراسة والمناقشة أو التوثيق أو الإنتاج أو الخلق أو الكتابة، وهذا تقرّه الجمعية العامة للأمم المتحدة في ميثاق الحقوق، ما يعني استقلال المؤسسات التعليمية، وهذا ما لم يكن محقّقاً بالمطلق، فغنيٌّ عن الشرح ما بات معروفاً لدى جميع السوريين، وما زال إلى الآن، سيطرة النظام الحاكم بمكاتبه الحزبية وفروعه الأمنية على الجامعات، وكيف يتدخل في تعيين الأكاديميين، وتقييد طرائقهم في التعليم، ومحاسبة أي جنوح من قبل أحدهم نحو تحفيز العقل ودفعه إلى التفكير في الظواهر وفي الأفكار المعلبة والنصوص المقدسة، دينية ودنيوية، وكيف أن لعنصر أمن صغير أن يتدخل في أداء أستاذ جامعي، بل وإهانته إذا اقتضى الأمر، وكيف أن البحث العلمي غير موجود حتى في هذا المستوى من التعليم، ومعروف أن طلاب الجامعات هم الشريحة التي تعتمد عليها المؤسّسات في الدول المتقدمة من أجل الابتكار أو حل المعضلات القائمة.
الحرية تحتاج إلى اضطرام الأسئلة وشحذها على الدوام، كي لا تخمد الجذوة المطمورة تحت رماد ما خلفه الطغيان بكل أشكاله
يمكن الحديث طويلاً عن المشكلات المزمنة التي أدّت إلى نخْر المؤسّسات التعليمية والتربوية في سورية، فأنتجت أجيالاً امتثالية، تتلقف أقوال القادة والزعماء وأفكارهم ونصوصهم على أنها النهج القويم للحياة، والتي يمكن القول إنها مسؤولة إلى حد ما عن عديد من أسباب تعثر انتفاضة الشعب السوري، والتي لمسنا تأثيرها في أداء الجهات التي طرحت نفسها ممثلة للشعب في مواجهة استبداد النظام، فقد مارست في غالبيتها الأساليب التي مارسها النظام ذاته، وكأنها كانت صورته في المرآة، ما انعكس على الوعي العام لدى الجماهير المنتفضة، في شريحةٍ كبيرة منها، تجلّى في تقديس الأفكار الجاهزة والسعي وراء زعامات، والبحث دائماً عن قائد تجلّه وترفعه إلى مراتب مقدسة.
أمّا واقع التعليم اليوم، فأبعد ما يكون عن مفهوم الحرية، إذ كيف بشعب يقترب من مرحلة الحاجة إلى أجهزة التنفس الاصطناعي كي تبقى أجهزته الحيوية تعمل، أن يفكر في تعليم وحرية وعدالة وغيرها من المفاهيم، التي هي في الأصل لم تصل إلى مستوى الفهم الحقيقي لها كقيم جديرة بكل هذه التضحيات التي بذلت؟ الشعب السوري مرهون لهذه الحياة القاسية، في الداخل وفي دول اللجوء القريبة وفي المخيمات، وهناك أجيال من الأطفال تضمر بطونهم وعقولهم وخيالهم، بل قسم كبير منهم خارج المدارس وخارج الطفولة وخارج الزمن.
وعلى الرغم من هذا، يريد الشعب الحرية، والحرية تحتاج إلى اضطرام الأسئلة وشحذها على الدوام، كي لا تخمد الجذوة المطمورة تحت رماد ما خلفه الطغيان بكل أشكاله، وأول الأسئلة مع عودة الحراك الشعبي سؤال: لماذا انتكسنا في الانتفاضة الأولى؟