ملح الكتابة في الجرح
لماذا لا نقوى على تجاهل ما حلّ بنا، ونحن نقاوم الرغبة في الموت أو البكاء، أو الغناء، أو الكتابة، أو الضحك .. أو حتى مماحكة الآخرين في قضايا غير مهمة؟
لماذا لا نستطيع تجاهل الرغبة في الكتابة، ونحن نعيش أضعف حالاتنا الإنسانية، فتكون للكلمات هيئة الدموع في المآقي وطعم الملح في الجرح المفتوح. ومع هذا، نستمرّ فيها كهذيانٍ بلا معنى واضح، وغموضٍ بلا مفاتيح؟
لا أكاد أصل إلى أي إجابةٍ عن سؤال الكتابة رغم أنه سؤالٌ ملحّ، ويباغتني في كل مرّة أقدم فيها على الكتابة شعراً ونثراً. وأظن أنه السؤال المفضل والصعب أيضا لدى كل من مارسوا حرفة الكتابة منذ اكتشفوا قدرتها على انتشالهم من حالةٍ تراوح ما بين البكاء والموت.
بالنسبة لي، كنت أطارد ذلك السؤال دائما، وأظن أن معظم كتاباتي في السنوات الأخيرة هي محاولة للإجابة عنه، أو حتى مدافعته ولو مؤقتا، لكنه يبقى دائما مفتوحا كجرح مؤلم، وإن كان تحسّسه بطرف الإصبع أحيانا يغمرنا بلذةٍ خفيةٍ لا نستطيع تبيّن سببها الحقيقي. يبقى جرحي الخفي نازفا أنهار الحبر الافتراضي ما بين أحرف لوحة المفاتيح وأنا أنقرها ببعض أصابعي. أخترع الكلمات، وأرصف السطور جملةً وراء جملة، وأهتم كثيرا بمشاعري التي تعبر عنها علامات الترقيم وحركات اللغة. أقاوم كل رغباتي التي تحاصرني بإلحاحٍ وقت الكتابة، لكي أستقلّ وحدي مع اللغة، وأنجح دائما في استقلالي المؤقت بعيدا عن كل ما يمكن أن يعكّر صفو أصابعي، وهي تمارس هواية النقر على لوحة المفاتيح بطريقةٍ شبه آلية أحيانا.
أستدرج الذاكرة الهرمة لتنهمر عليّ بما ظننته قد اختفى تحت ركام الأيام. لعبة مسلية أمارسها مع ذاكرتي كلما استعصت علي الكلمات، ودائما أنجح في نهاية اللعبة لأنني اكتشفت ذلك السبيل الآمن الممتدّ ما بين الذاكرة والكلمات. أكتب إذن لأن الكتابة وسيلة للعبور إلى الضفة الأخرى التي لا أعرف ما هي وماذا يوجد فيها بالضبط، ولا ما ينتظرني على تخومها، فالكتابة حالة مدجّجة بالأسئلة المفتوحة، ولا غضاضة في المضي فيها بلا إجابات نهائية. ولهذا أجدني وأنا أكتب، كل كتابة مهما كان صنفها أو الاسم الذي يطلقه عليها الآخرون، ذلك أنني لا أحبّ التسميات وأنزعج من التصنيف، أعيش ظرفا طارئا مهما بدا لي أو للقارئ من بعد ذلك حالة استقرار، فالاستقرار هو عدو الإبداع الأول وربما الأخير. وبالتالي، لا ينبغي على أحدٍ أن يظن أن النقطة الأخيرة التي تنتهي بها آخر جملة في أي نص نكتبه يمكن أن تكون نقطة النهاية. فلا نهاية في الكتابة، ولا بداية أيضا ولا وصول، وإن حاولنا تجاهل تلك الحقيقة المختبئة بين السطور ووراء الكلمات كأسرار عصيةٍ على التأويل أو توهمنا أننا وصلنا أو نجحنا أخيرا، فالنجاح الحقيقي الوحيد الذي أعترف به ويفرحني وأنا انغمر بلجّة الأحرف وصخب الكلمات هو نجاح الاستمرار في البقاء على قيد الكتابة دائما، والارتواء من مائها المملّح بالدموع والمسيج بالضحكات!
نستمر إذن في الكتابة، ونعيش سؤالها الكبير، وأسئلتها الملحّة الأصغر، ولا ننزعج من فشلنا في الوصول إلى إجاباتٍ كبيرة أو صغيرة، فليس من نجاحاتنا فيها الوصول إلى إجابات، بل نبش مزيد من الأسئلة بواسطة تفكيك الذاكرة عبر اللغة وحدها .. وهذا مجدٌ كبيرٌ وفرحةٌ أكبر لو تعلمون.