حين تضيق الرؤى وتتّسع العبارات
"كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة".. قالها النفّري، وكأنّه يشير إلى تلك الحالة العميقة التي تصبح فيها التجارب الإنسانية أكبر من أن تحاصرها الكلمات. حين يرى الإنسان أفقاً أوسع، وحين يتعمّق في فهمه الوجود والحياة، يجد أن اللغة تخونه؛ فالأشياء الأثمن في الحياة لا تُقال، بل تُحسّ، ولا تحتاج إلى صخب العبارات، بل إلى صمت التأمّل. لكننا اليوم، في زمن التواصل الاجتماعي، نعيش مفارقةً عجيبةً إذ ضاقت الرؤى واتّسعت العبارات، باتت الكلمات تسيل في الشاشات الصغيرة بلا توقّف، في حين تقلّصت مساحة التأمّل، وضاقت الأحلام، وذابت المعاني في زحام النصوص المتشابهة.
كان من المفترض أن تجعلنا هذه المنصّات أقرب إلى بعضنا بعضاً، أن تُفتح النوافذ على تجارب جديدة، وأن نرى العالم بعين أوسع وأرحب. لكن ما حدث أن الكلمات التي كان يُفترض بها أن تنقل المعنى صارت تُغرِق المعنى نفسه. صار التعبير غاية في حدّ ذاتها، لا وسيلةً لفهم أعمق. كلّ شيء يُختصَر في تدوينة، وكلّ شعور يُضغط في بضع كلمات، حتى صار الإنسان يُحاصر ذاته في قوالبَ لغويةٍ ضيّقةٍ تُجبره على السطحية، وتُقصيه من أعماق روحه.
في عصر السرعة، لم يعد هناك وقت للتأمّل أو للإصغاء الحقيقي. أصبحنا نكتب كي نُقال، ونتحدّث كي نُسمَع، لكنّنا نادراً ما نُفكّر أو نُصغي. تضخّمت العبارات حتى صار للكلام ضجيج لا ينقطع، لكن خلف هذا الضجيج يبدو المشهد فارغاً، وكأن الكلمات فقدت معناها. فحين تضيق الرؤى، يصبح من السهل أن نتحدّث عن كلّ شيء، لكن من دون أن نقول شيئاً. تتكرّر العبارات المُستهلَكة، ويُعاد تدوير الكلمات ذاتها في كلّ مرّة، حتى بتنا نشعر أن الأصوات التي نسمعها ليست إلّا صدى بعضها بعضاً، بلا أصالة أو تجدّد.
هل تأمّلنا يوماً كمّ العبارات التي نقرأها يوميا من دون أن تترك أثراً فينا؟ آلاف الجمل تمرّ أمام أعيننا، لكنّ القليل منها يلامس أعماقنا. إنه زمن التغريدات السريعة، إذ تُختصَر الفكرة في 280 حرفاً، وتُلخَّص المشاعر في رموز ووجوه مبتسمة، وكأنّنا نحاول أن نضغط الحياة بأكملها في قالب صغير ومحدّد. لكنّ الحقيقة أن المعاني الكبيرة لا تُختصَر، والمشاعر العميقة لا تُحاصَر. إننا بحاجة إلى الصمت أحياناً كي نستعيد رؤيتنا، إلى التأمّل كي نفهم، وإلى أن نعيد اكتشاف متعة أن تكون الكلمات قليلةً لكن ذات مغزى.
تضيق الرؤى حين نتوقّف عن طرح الأسئلة، وحين نسمح للضجيج بأن يعمينا عن حقائقَ أبسط وأعمق. نكتب عن السعادة ونحن في الداخل فارغون، نتحدّث عن الحُبّ وكأنّه حدثٌ عابر، بينما قلوبنا قد نسيت كيف تنبض به في صمت عميق. نكتب عن الصداقة، لكن علاقاتنا أصبحت هشّةً، تُختصَر في تفاعل إلكتروني أو "إعجاب" عابر. نُفرِط في استخدام الكلمات الكبيرة مثل "الحلم" و"الأمل"، لكنّ أحلامنا باتت صغيرةً، مؤقّتةً، ومحدودةً بآخر منشور نال إعجاب الآخرين. إنّا نعيش في زمن تغرق فيه التفاصيل في بحر من العبارات الجوفاء، حيث لا نجد وقتاً لنغوص في أعماق أنفسنا بعيداً من ضوضاء المنصّات.
وفي هذا الزحام، نتعلّم كيف نُجاري التيّار، وكيف نحشد الكلمات لإبراز وجودنا، لأن الغياب عن المشهد الرقمي صار يعني العزلة عن العالم. لكن، هل نتساءل يوماً: ماذا لو أن الصمت هو ما نحتاجه حقّاً؟ ماذا لو أن المعاني التي نبحث عنها لا توجد في الكلمات، بل في المساحات التي تفصل بين الكلمات؟ لقد نسينا أن أجمل المشاعر تُحسّ، لا تُقال، وأن التجارب الأعمق هي تلك التي لا يمكن اختصارها في جملة جاهزة.
عندما تضيق الرؤية، يصبح الإنسان أسير نظرة سطحية للعالم، فلا يرى إلّا ما هو ظاهر، ولا يتفاعل إلّا مع ما هو مباشر. تختفي التفاصيل الجميلة التي تحتاج إلى صبر وملاحظة، ونفقد القدرةَ على إدراك جمال اللحظات الصغيرة التي تمرّ في صمت. أمّا الكلمات، فقد اتّسعت وتمدّدت حتى باتت تُستخدَم من دون حساب، تُنثَر بلا وعي، وتفقد قيمتها مع كلّ مرّة تُقال فيها بلا إحساس حقيقي.
لكنّنا نحتاج إلى أن نتوقّف للحظة لنسأل أنفسنا: ماذا تعني الكلمات حقّاً إذا لم تكن تعبّر عن رؤية صادقة؟ ما فائدة العبارات إن لم تكن نابعةً من تجربة عميقة أو إحساس حقيقي؟ لعلّ العودة إلى الصمت أحياناً هي ما يمنح الكلمات معناها من جديد. فالكلمات التي تأتي بعد تأمّل طويل تحمل في طياتها نوراً لا تحمله العبارات المُستعجِلة.
نحن في حاجة إلى أن نُعيد اكتشاف قيمة "قلّة الكلام". أن نُقلّل من الضجيج حولنا، لنستمع إلى أصواتنا الداخلية، إلى تلك اللحظات التي لا تحتاج إلى جمهور أو تصفيق، لنكتشف أن المعادلة التي تحدّث عنها النفّري لا تزال صحيحةً رغم كلّ شيء. كلّما وسّعنا رؤيتنا للعالم، ضاقت حاجتنا إلى الكلام. وحين نتعلّم أن نعيش الحياة بعمق، سنتحدّث أقلّ، لكن كلّ كلمة ستصبح أثمن، لأن ما يعبّر عنها هو روح متأمّلة، لا مُجرَّد أصابع تنقر بلا توقّف على شاشة زجاجية.