مكر التاريخ ومفارقاته الفارقة
من لم يفطن إلى مكر التاريخ يوماً ولم يره من قبل، فقد سنحت له فرصة اللقاء، أخيرا، بهذا الكائن الساخر الغامض برهةً، وأتيحت لكل من يبصر بعين عقله مشاهدة المعلم الأكبر وجهاً لوجه، ومصافحته في لاهاي يداً بيد، وذلك عندما ترجّل شيخنا الطاعن في السن والمكر والصبر من على ظهر بغلته العجوز، ولوّح بيدِه إلى المتجمهرين أمام قصر السلام، حيث مقرّ محكمة العدل الدولية، سار على مهل مهله أول الأمر، ثم غذّ السير كمن استعجل نفسه، كي يسبق الجميع، بمن فيهم القضاة والمترافعون، ودلف إلى القاعة بتؤدة، وأخذ مقعده الخلفي، مراقباً حصيفاً تحت قوس العدالة.
يقيناً أن الملايين في مشارق الأرض ومغاربها قد رأوا المكر عياناً بياناً في أتمّ صوره، يمشي على رِسله في المدينة الهولندية الهادئة، وشاهدوا الماكر العظيم بكل جلال قدره عبر الشاشة، يوزّع على الملأ ابتساماته الضارية، يهدر بصوته الأجشّ، وهو يتلو على مسامع القوم بلاغه: أيها الناس، ليست العبرة بالنيات ولا حتى بالنتائج، وإنما بما يترتب على النتائج من نتائج، وأحسب أن صاحبنا العتيق عتق الدهر قد جلس القرفصاء على الرصيف، وراح يعرض على السابلة عظاته، ويسرد عليهم جملة طويلة من مفارقاته، حيث سننتخب من بينها، إلى جانب واحدة من تجليات مكر التاريخ، ثلاثا من مفارقاته.
في باب المكر، كانت دولة الاحتلال قد دخلت قبل "طوفان الأقصى" قفصاً من صنع يدها، قوامه الثقة الزائدة بالنفس من جهةً، والنظرة الدونية إلى العدو من جهة مقابلة، وظلّت، منذ ذلك الوقت، أسيرة قيديْن لا فكاك منهما، سكرة القوة الماجنة المؤسّسة على نتائج حرب 1967 أولاً، ويقين راسخ بضعف عدوٍّ عديم القدرة على مكاسرة أقوى قوة في المنطقة ثانياً. إلا أن مكر التاريخ كان متوارياً، وبقي صامتاً، يسخر من الغرور والاستهانة معاً، إلى أن ضحك عالياً يوم 7 أكتوبر، حين تحوّلت القوة الغاشمة إلى حالة ضعف بائنة، فيما تحوّل الضعف لدى عدوّها إلى مكمن قوة مكافئة نسبياً وفاعلة.
أما في باب المفارقات، فإن أولاها ماثلة في أن محكمة العدل الدولية، هذه التي قامت قبل سبعة عقود وأكثر، تحت تأثير المحرقة النازية في البرّ الألماني، لمنع جريمة الإبادة مرّة ثانية، تنعقد اليوم بعد مائة ليلة من حرب إبادة مماثلة، هذه المرّة في قطاع غزّة، اقترفتها أيادي أحفاد من نجوا من الهولوكوست، وهذه سخرية أخرى من سخريات القدر، أو قل فارقة شديدة من مفارقاته، حين قلّدت الضحية جلّادها، وحفظت فنون جرائمه عن ظهر قلب، فراحت تنتقم لنفسها بماكينة قتل وتطهير عرقي أشدّ فتكاً مما كان لدى أدولف هتلر من آلة إبادة.
الثانية أن جنوب افريقيا، دولة نظام التمييز العنصري البائد، وتوأم روح دولة الاحتلال الراهن، كانت فرس الرهان الرابح منذ عهد نيلسون مانديلا، حيث أخذت زمام المبادرة باقتدار وجلبت نظراء مضطهدي الأفارقة إلى قفص الاتهام في لاهاي، وهذه لعمرك، يا أخا العرب، واحدة من تجليات مكر التاريخ، فوق أنها إحدى مفارقاته الفارقة، الأمر الذي يضاعف من رمزية المواجهة القضائية، ويعظّم من وجاهة المحاكمة، ويعطي جنوب أفريقيا صفة الممثل الشرعي الوحيد للضمير الإنساني.
المفارقة الثالثة ماثلةٌ في انقلاب السحر على الساحر، بعد أن تحوّلت دولة الاحتلال، بين عشية وضحاها، من ذخر استراتيجي للغرب، إلى عبءٍ عسكري عليه، بدليل كل ذلك الاستنفار الأميركي والأوروبي، بالسلاح والمال، لإنقاذ ربيبتهم وقرّة عينهم في الشرق الأوسط، عندما أخذها طوفان الأقصى أخذ عزيز مقتدر، فقلب "عاليها واطيها" وكشف عورتها بالكامل، الأمر الذي غيّر وجه هذه المنطقة، وربما وجه العالم كله، ومنح غزّة وسام استحقاقٍ لم تستطع كييف انتزاعه.
صحيحٌ أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون في القطاع المحاصر كان باهظاً، وكان الألم شديداً في هذه الملحمة (يبحث قادة الاحتلال عن إيلامٍ أقسى من الموت لإنزاله بالغزّيين) إلا أنه يمكن القول، بأسف بالغ وعقل بارد، إن الإنجاز المبشّر يستحق مثل هذه التضحيات الثمينة، وإن النتائج الأولية أتت باهرة بكل المعايير، فمن كان يُصدّق أن الاحتلال سيقف عاجزاً مائة ليلة وليلة (والحبل على الجرّار) ويفشل في قهر المقاومة، وأن غزة المحاصرة ستقاتل بكل هذه البسالة زمناً أطول مما قاتل العرب جميعاً، وأنها خطت الخطوة الأولى على طريق التحرير، الذي لم يعد بعد اليوم مجرّد حلم بعيد المنال.