مكتبات الفلسطينيين المنهوبة بين الوقاحة والانتهازية
ترتفع حساسية المرء تجاه التفاصيل بعد مغادرة المنزل، وتبلغ درجاتٍ غير مسبوقة، حين تكون المغادرة قسرية! اضطرّ إليها خوفاً من الموت، على يد زمرة باطشة، أو عصابات منظّمة، تريد إبادة الآخر، وعلى الأقل طرده، كي تستولي على حياته كلها.
في حالات كهذه، لن يكون بالإمكان التعاطي، بشكل طبيعي، مع أي غرض مادي منهوب، والموافقة على استخدامه بشكل شرعي، فتبدأ محرّضات القهر بفقدان البيت، المأوى، وتمرّ بأصغر أدوات المطبخ، وغيرها، لكنها تعاود بداية جديدة مع المكتبة؛ فقدسية أوراقها لا ترتبط بالدين بقدر ارتباطها بتاريخ الشعب الذي يبدأ من ماضي العائلة.
في تطبيق تلغرام الروسي، حيث يزدهر منذ سنوات التنافس بين قنوات نشر النسخ الإلكترونية من الكتب، من أجل إتاحة المزيد والمزيد من المؤلفات التراثية والحديثة باللغة العربية وغيرها، ظهرت أخيراً قناة تحمل اسم "المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، وضع لها عنوان فرعي طويل: "المخطوطات والمطبوعات العربيّة - الإسلاميّة في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وفيها، مِنَ النّوادرِ، ما لا يُوجَدُ في غيرِها، وهنا بعض فهارسها"!
سيبدو الأمر غريباً بين المتابعين، فيبحث بعضهم عن تبعية القناة للمؤسسة الرسمية التابعة لسلطات الاحتلال، من خلال الدخول إلى موقعها الرسمي، حيث لا يعثُر أحد على أي إشارة تفيد بوجود علاقة بينهما، لكن التدقيق في المنشورات التي كثفتها، خلال فترة وجيزة، سيلفت الانتباه أكثر فأكثر. ولن يكون صعباً على المهووسين بالمطالعة معرفة أن المحتوى الذي تُغرقهم القناة به، يأتي من رفوف المكتبة بشكل فعلي، بعد رقمنته، فالدقة العالية في عملية النسخ واضحة، حيث يجري النشر من دون تخفيض الحجم، كذلك فإن ختماً باسمها يظهر واضحاً في آخر صفحات النسخة المنشورة لأي كتاب.
تعمل إسرائيل على سرقة التراث والذاكرة الفلسطينيين، ومحاولة طمس التاريخ المحلي للشعب المنكوب
خلال فترة وجيزة، نشر القائمون على القناة كمّاً كبيراً من الكتب التراثية التي لن يحتاج الحصول على نسخ منها إلى الحاسوب الشخصي سوى ضغطة زر، وسرعة وصول معقولة إلى الشبكة. وعند التدقيق في المحتوى، سيكون الشعار المرفوع أعلاه دقيقاً، وبما يكفي لاستنتاج أن أحداً ما، وعلى الأغلب سيكون إدارتها، قد قرّر أن يدخل فضاء الكتاب الإلكتروني العربي، من بوابة محتوياتها، التي جاءت في الأصل من الملكيات الشخصية، التي استولت عليها عصابات المحتلين من بيوت الفلسطينيين، وغيرها، في عام 1948.
فعلياً، سيحصل المتابعون، ليس على الفهارس فقط، بل على صور مخطوطات تراثية غير متوفرة في مكان آخر سواها، وبينما كانت عملية الرقمنة العربية تقوم على نشاط الأفراد المهتمين، وبنسبة أقلّ على نشاط مؤسسات خاصة أو رسمية، يسجل القائمون على هذه القناة توجّهاً، غير مسبوق، من أي مكتبة رسمية للنشر الإلكتروني، من دون التفكير في مسألة حقوق النشر، أو الملكية الفكرية.
بُعيد وقت قصير من ظهور هذه القناة، سيلاحظ باحثون في عالم المخطوطات ظهورها، فيمرّر بعضهم أشياء مما حُمِّل منها، مع الإشارة إلى المصدر، من دون التدقيق في أصول المِلكية، أو الحديث عن أصحابها "المجهولين". وفي مكان آخر، سيدون أحد المتابعين بسخرية: "لقد سرقوا هذه الكتب، وها نحن نسرق نسخة منها، والسارق من السارق كالوارث من أبيه"!
بينما، سيحيلنا التفكير في الأمر إلى سياقٍ غير تبسيطي، يرتبط فعلياً بجهودٍ تُبذل للكشف عن سرقة الإسرائيليين التراث والذاكرة الفلسطينيين، ومحاولة طمس التاريخ المحلي للشعب المنكوب، وتأطير ما يُتاح منه كمعرفة وعناصر، على أنه إرث للمحتلين!
غير أن ما يثيره ظهور صور النسخ الكاملة للمخطوطات، من شهيةٍ عاليةٍ لدى الباحثين، لاستكشافها، ودراسة محتوياتها، وتحقيقها، وطباعتها، يُوقع كل من سيركّز على كونها مسروقة، في مأزق التنازع، بين الغايات العلمية التي لا يجب أن يقف أمامها أي عائق وأن يشرعن ذلك استخدام المسروقات، وتجاهل الجانب المأساوي في مصيرها، وكونها تفصيل مهم من تفاصيل السردية الفلسطينية، التي تتشابك فيها حكايات الأفراد والعائلة، مع ملكياتهم الفكرية والثقافية.
هنا، لا يجب على أصحاب النزعة النفعية أن يجربوا إقناع جمهور المتابعين، بأن تعاطيهم المعقّم من الحساسية الأخلاقية، مع شؤون الفلسطينيين الدقيقة، بهذا الشكل البارد، هو أمر طبيعي، بما أن الغايات محض علمية!، خصوصاً أنهم، عندما ينحون هذا المنحى، يصبحون شركاء للسارقين، يستجيبون لغاياتهم، وعلى وجه الخصوص منها، تبييض صفحتهم من الشوائب، ثم تسويق أنفسهم من بوابة خدمة الثقافة والتراث العربيين.