هِتافُ المنابر فوق ركام مخيم اليرموك
من دقّق في الأفلام الإخبارية التي بُثّت عن احتفال المنظمات الفلسطينية بيوم القدس في مخيم اليرموك، لاحظ الساتر المطبوع خلف المنصّة، فقد كان يكفي بصوره ذات الألوان الزاهية لتغطية عشرين متراً أو ثلاثين فقط من مشهد الدمار الذي لحق بالمكان، بعد أن قصفته قوات نظام الأسد قبيل خروج الفصائل الجهادية المسلحة بعنفٍ شديد، بعد أن استمرّ حصارها له خمس سنوات (2013 ــ 2018).
في مواجهة المنصّة، حيث جلس الجمهور، لم يكلّف المنظمون أنفسَهم وضع سواتر، ما يؤشّر على أن القصد لم يكن تزوير المعطيات البصرية، بل كان محاولة لتجنيب الخطباء المشاركين في الاحتفال أن تظهر في خلفيات لقطاتهم مشاهد غير مستحبّة؛ إذ ليس من المنطقي أن يتحدّث المفوهون المتحمّسون بالكلمات المؤثرة عن القدس الشريف ونضالات الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، بينما يشوش دمارٌ سبّبه ممانعون على معاني النضال والفخر والإباء.
جرى هذا قبل أيام، عندما جاء ممثلون عن حلف المقاومة والممانعة بأدواتهم (عدّة الشغل) إلى المخيم الذي صار اسمه شارع (مجرد شارع!) في الجغرافيا الدمشقية الحديثة، إثر صدور قرار من مجلس المحافظة يفيد بذلك، وسط فراغه من السكّان، إذ لا تزال الأجهزة الأمنية السورية تمنع أصحاب البيوت من العودة، من دون أسباب معلنة، رغم تعهد ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية مرّات عدة بقرب حدوث ذلك.
على قادة "الجبهات" الفلسطينية أن يبالغوا في المداهنة والتمسّح بالحليف الإيراني، وأداته حزب الله
ووسط الكارثة الهائلة التي حلت بعاصمة الشتات الفلسطيني، أراد المحتفلون تكريس "وحدة الساحات" بين الغبار والركام، تحت رعاية من قام ليس بتدمير المخيم فوق رؤوس الباقين من سكانه فقط، بل بتدمير جوهر النضال الفلسطيني في سورية، فجعله ملحقاً بالسياسة الأسدية التي توظّف قضايا الآخرين ومآسيهم واندفاعات شبابهم لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتستثمرها في سبيل الحصول على عروضٍ محسّنة في مسار التسوية مع الإسرائيليين.
وفي تفاصيل الدور المنوط بالفصائل العشر، التي عليها أن تتّبع خطوات النظام، وأن تكون سنّيدة له، حتى في قمع أبناء شعبها، وتسليمهم للمخابرات عند الطلب، سيكون على قادة "الجبهات" أن يبالغوا في المداهنة والتمسّح بالحليف الإيراني، وأداته حزب الله اللبناني، وشكره على الدعم، إلى درجةٍ سيشعر عندها أي فلسطيني بأن قضيته لم توجد إلا من أجل أن تخدم الإيرانيين، الذين لم يفرّطوا بالفرصة، فبذريعتها وتحت عناوينها، فرضوا سيطرتهم على شعوب أربع دول عربية: سورية والعراق ولبنان واليمن.
وفي الجهة الأخرى، وتحديداً في كل بيت فلسطيني، اضطر أصحابه إلى اللجوء مجدّداً ليحافظوا على حيواتهم حول بقاع الأرض، بعد أن قصفت طائرات حربية اليرموك أول مرة قبل أسبوعين من نهاية عام 2012 مستهدفة النازحين المقيمين في مدرسة الكرمل في شارع المدارس وفي جامع عبد القادر الحسيني في شارع عز الدين القسام، لم يتابع أحدٌ ما قاله أسديو الساحة الفلسطينية، بل كان الجميع ينظرون إلى المَشاهد المصوّرة ليروا ما حلّ بالمكان الذي عاشوا فيه طفولتهم وشبابهم، قبل أن يلتحقوا بإخوتهم السوريين في رحلة الشتات القاسية، وليعيشوا السنوات الأخيرة في المنافي يترقّبون مآلات الوضع السوري، بانتظار لحظة العودة إلى المخيم!
تعاطي الأسد مع الملف الفلسطيني خلال سنوات الثورة السورية لم يكن مختلفاً عما فعله قبلها
الخروج من توصيف الحالة التي خلقتها كوميديا الاحتفال بيوم القدس بين أنقاض مخيمٍ يجعلنا نبتعد كثيراً عن جوهر مفارقاتها، فسياق تعاطي الأسد مع الملف الفلسطيني خلال سنوات الثورة السورية لم يكن مختلفاً عما فعله قبلها، لا بل إنه تركّز حول تفريغ المكان من معطياته الرمزية التاريخية، وتحويله من بقعةٍ محيّدة عن الصراع إلى بؤرةٍ مركزة له، والاشتغال على بعثرة الوجود الفلسطيني، ومعاقبة كل من وقف مسانداً السوريين الثائرين، حتى بات عدد المعتقلين والمختفين 2389 بين الأعوام 2012 و2014 فقط، بحسب موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين، ما يعني أن ثمّة من ينكر (ويتجاهل) الوضع المأساوي الذي صنعته الأجهزة الأسدية في أحوال الناس في هذا المكان، ويمارس دور ممسحة الجرائم عن طيب خاطر، ويبحث عن مزيد!
وفي هذا المسار، يأتي تهافت قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار على منح إيران والنظام الأسدي وحزب الله الفضل في بناء المقاومة الفلسطينية الراهنة، والذي قوبل باعتراض من قادة آخرين، ومنهم عضو المكتب السياسي للحركة، موسى أبو مرزوق، يدركون ربما خطورة جعل الجهد النضالي الفلسطيني أداةً في يد هذا المحور أو ذاك.
لطالما جعل محور الممانعة والمقاومة القضية الفلسطينية سبّوبة لابتزاز مشاعر أصحابها والعرب والمسلمين عموماً، لكن الحقيقة الراسخة تقول دائماً إن أوائل المفرّطين كانوا الذين يصرخون بها على المنابر ويتشدّقون باسمها، حتى وإن كانوا يقفون فوق الخراب، حقيقة وليس مجازاً، كما فعلوا في المخيم قبل أيام.