مقطع من سعيد عقل

29 نوفمبر 2014
+ الخط -
ليست وفاة سعيد عقل، أمس، مناسبة، فقط، للحديث عن شعريته العالية، وأناقة قصيدته، وأستاذيته الرائدة في شحن الشعر العربي الحديث بلغةٍ مقطّرة، ذات صفاءٍ خاص، وقف على أرضها نزار قباني، لاحقاً، وأفاد منها تالياً، محمود درويش في بواكيره. ليس المقام، في هذا المطرح، للإحالة إلى سعيد عقل في هذا كله، بل هي وفاته تيسّر إطلالة موجزة على لبنان، وطن الشاعر الكبير، في طورٍ غير قصير، كان الاشتباك الحاد، والمسلح، في أثنائه شديداً، بشأن هوية هذا الوطن وصلته بجواره. في تلك الغضون، كان صاحب "رندلى" في أقصى اليمين الانعزالي، الشديد العداء للوجود الفلسطيني في لبنان. ولدى التلفزيون الإسرائيلي محفوظة في أرشيفه مقابلته مع الشاعر، الكبير حقاً، والتي يرحب فيها بالجيش الإسرائيلي إبّان اجتياح لبنان، لإنهاء وجود الفلسطينيين. وليس منسياً أنه ما أن بثت "الجزيرة"، قبل 13 عاماً، مقطعاً من تلك المقابلة، في إحدى حلقات برنامج وثائقي لافت (حرب لبنان)، حتى أوقفت صحيفة السفير نشر مقالة سعيد عقل، وكانت شبه يومية، على ما نتذكّر، في الصفحة الأولى.
شاعر استثنائي وفريد، وأيضاً، مخرّف عتيد في السردية المتورّمة، والتي ينقطع لبنانيون في إشهارها، عن عظمة بلدهم وحضارته. وقد أخذ هذا الهوس بهذا الأمر، بالصحيح منه وغير الصحيح، بالمفتعل والفلكلوري، بالطريف وغير الطريف، أخذ سعيد عقل إلى حديثٍ عن حرفٍ عربي وآخر لبناني (ما هو بالضبط؟)، بل إنه، مرّة، تكلم عن آلةٍ كاتبة لديه بالأحرف اللبنانية. ولعل إفراطه في لبنانيته المتوهمة تلك، وقد أرادها نقية من أي (دنس)، ما جعله يؤسس حزباً في مطلع السبعينيات، نهض عليه، تالياً، الحزب الأكثر عنصريةً، حراس الأرز، والذي تزعمه أحد (أشاوس) مجرمي "صبرا وشاتيلا". ومن عجبٍ أن سعيد عقل، صاحب هذه الروح، تعلق، شيئاً ما، بصدام حسين، وأظنّه في ثمانيناته، زار بغداد، وطالب برفع الحصار الذي كان مفروضاً على العراق.
نجا لبنان من لبنانية سعيد عقل تلك، وتعافى، إلى حد كبير، من خيار سياسي مرذول تملّك الشاعر الذي حلّق في فيروزياته المغناة، وفي غيرها، عالياً في فضاء الشعر الجميل. ودفع لبنان كثيراً حتى تحققت تلك النجاة، وقد خيض من أجلها نقاشٌ ثقافي، بعتاد وعدةٍ ثقيليْن، في أطروحاتٍ عروبية لم تتسخ بشوفينيةٍ، أو فوقيةٍ، مستنكرتين، وإنما وقعت على المعادلة المؤكدة، والتي ترى لبنان ضرورةً عربية، تزاوج بين حداثةٍ منفتحةٍ وارتباط مكين بهوية وأفق عربي مؤكدين، وإنْ تعدّدت أمراضٌ غير قليلة أصابت العروبة وحاملي بيارقها، وإنْ تتفشى الحاراتية الطائفية، وإنْ ظلَّ لبنان (البلادولة، بحسب نعتٍ حاذق من سعيد عقل) ساحة أهواء ومنازعات إقليمية معلومة.
لم يكن صاحب الملاحم والخماسيات والعاميات، ذات المكانة المهمة في المدونة الشعرية العربية، منذ أولى قصائده وأعماله في ثلاثينيات القرن العشرين، معادياً للعروبة مكوناً ثقافياً، على ما نعتقد، إلا أن تصوره ذاك عن لبنان، وعن "القومية اللبنانية"، بحسب تسميةٍ اخترعها، وأطربت أتباعاً له أحبوه، هو ما جعل صورته على غير ما كان مقيماً عليها من قناعاتٍ بشأن العرب وعروبتهم، وبشأن الفلسطينيين، من دون فلسطينهم ربما. ولأن الالتباس في أمره كبير في هذا كله، يصح القول إن الأدعى إلى الانتباه إليه، والانشغال به، في سعيد عقل، هو صنيعه الشعري الأنيق والرائق، من دون التسامح مع تلك النقاط السوداء في أرشيفه العريض، بحسبانها مقطعاً في حالةٍ لبنانية قلقة، أظننا ودّعناها إلى حد كبير، وأظن أن صاحبنا، الذي غادر الدنيا، أمس، عن قرنٍ وست سنوات، لم تكن تؤرقه في شيخوخته، حين انصرف إلى الصمت، وإلى جائزة تحمل اسمه، وإلى تأملٍ أخير في لبنان (بأرزاته العاجقين الكون)، على ما قال، مرة، بقناعةٍ يُغبط عليها.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.