مقصّ الترجمة
كتب المترجم المصري، سمير جريس، على صفحته في "فيسبوك": "وصلتني بالأمس – أخيرا – نسخ من ترجمتي لكتاب "فهرس بعض الخسارات" (للكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي، 1980) الصادر لدى مشروع "كلمة" الإماراتي. والحقيقة أن فرحتي بصدور هذا الكتاب الفريد لا توصَف؛ فهو من أبرز إصدارات الأعوام الأخيرة في ألمانيا، ووصلت ترجمته الإنجليزية إلى جائزة "مان بوكر"... لكن فرحتي بصدور الكتاب فرحة منقوصة... لقد تعرّض أحد فصول الكتاب، فصل "دائرة معارف في الغابة"، إلى مذبحة أطاحت بـ 640 كلمة، تدور حول موضوع الجنس والأعضاء الجنسية لدى الرجل والمرأة. والحذف حدث بدون اتفاق مع الكاتبة، وبالطبع بدون الرجوع إليّ. وأضيف هنا أن هذا الفصل مكتوبٌ بأسلوبٍ علميٍّ يكاد يكون جافا، ولا علاقة له بالإثارة من قريب أو بعيد..".
كثرت التعليقات المستنكرة والنصائح بوجوب نشر المحذوف أو رفع دعوى ضد الدار، والأهم أن مترجمين عديدين أدلوا بدلوهم في الموضوع، ولم يتوانوا عن اطلاعنا على "مصائبهم" الخاصة ومغامراتهم السيئة مع الرقابة المفروضة على ترجمة بعض النصوص.
هذا بالطبع ليس سابقةً أو خبرا مفاجئا، وإن كان محزنا ومربكا، فمثل هذه "المجازر"، بحسب ما سمّاها جريس وسواه من المعلّقين، لا تُمارَس بحقّ النصوص الأدبية فحسب، بل أيضا وأيضا بحقّ المسرحيات وكذلك الأفلام، حيث تُحذف كل المشاهد التي تُظهر امرأة ورجلا مجتمعين في خلوة حميمة، أو حين تُحوَّل الشتائمُ قاطبة إلى عبارة "تبّا لك"، أو حين تصبح المشروبات الروحية "شرابا"، والنبيذ "عصير عنب"؟
هذا، وقد قد يقول قائل ما أهمية حذف 640 كلمة فقط (!) من أصل عشرات آلاف الكلمات؟ ويضيف: أليس من الأفضل أن يُحذَف القليل لإتاحة الكثير والسماح بقراءة البقية، من أن لا يترجَم الكتاب بالمرّة ويبقى بعيدا عن متناول الملايين؟ والحال أننا غير مُجبرين على الردّ، أو على تناول الموضوع من زاوية النظر الخاطئة هذه، لأن جوهر المشكلة قائمٌ في مكان آخر، وهو كيفية تعاطي بعض المؤسسات الثقافية المهيمنة والممارسة لسياسة المنع والحذف، مع القارئ/ المشاهِد العربي، واعتباره قاصرا، غير قادرٍ على التمييز بين ما يضرّه وينفعه، أو غير مؤهّلٍ للتعرّف إلى الآخر بكل ما يجعله مختلفا عنه. والقصور المشار إليه هنا لا يعني أن قارئنا لم يبلغ سنَّ الرشد بعد، بل إنه دون ذلك بكثير، اي أنه ما زال، بحسب التقسيم العمري الجاري، دون سنّ العاشرة، وتنبغي إذن حمايته أو تعمية بصره عما يحيط به. هكذا لا يُصدَم على سبيل المثال بوجود جنس، أو باكتشاف كيف يولد الأولاد أو من أين يجيئون ... تحضرني هنا رواية "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، وفيها أن الراهب المسنّ أخفى عن إخوانه من الرهبان وجود النسخة الفريدة والوحيدة من كتاب أرسطو "الكوميديا" في مكتبة الدير، وسمّم صفحاته التي جعل يلتهمها في نهاية الرواية، قبل أن تحترق المكتبة برمّتها بمخطوطاتها النادرة الثمينة، ذلك أن الضحك برأيه يقتل الخوف، وبدون خوف لا وجود للإيمان.
لقد بتنا نسمع، كل يوم، هنا وهناك، عن ذرائع تبرّر ممارسة الرقابة على مختلف أنواع الإبداع، من نوع "خدش الحياء " أو "التعارض وقيمنا الدينية والأخلاقية"، إلى ما هنالك من حججٍ تتناسى وتريد أن تنسينا أن الكتب والنصوص العربية القديمة لم تكن تقيم اعتبارا لمثل هذه الأعذار. وأنها، على العكس من ذلك، لم تكن تخشى تسمية الأشياء بأسمائها بدقّة وبشكل علمي. ثم هل ينبغي أن نذكّر كل مرّة بالبديهي؟ أليس هدف الترجمة الأول والأخير نقل الثقافات المختلفة عن ثقافة المتلقّي، بغية توسيع الآفاق؟