مغزى إصابة حماس بنيران صديقة

04 أكتوبر 2022
+ الخط -

في مشهد واحد تجلّى مرّتين، بين الشهرين السادس والتاسع من هذه السنة، سُمع دوي صافرات إنذار، أعقبها هدير مدفعية من كلام ثقيل، أطلقها كتاب وإعلاميون ونشطاء لامعون على الشبكة العنكبوتية، من أبناء حركة حماس المدافعين عنها بثبات، لتنبيهها من مغبة تطبيع العلاقة مع دمشق، حيث بدا هؤلاء في المرّتين أصحاب صوتٍ مختلف عما عهدناهم به، وعما درجوا عليه من قبل، إذ خرجوا عن سياق "أنا من غزية إن غوَت غويتُ/ وإن ترشد غزية أرشدِ" حتى لا نقول خرجوا عن طورهم، ومارسوا انتقادات علنية نادرة، إزاء قرار قيادة الحركة في غزة العودة إلى أحضان نظام الأسد، الأمر الذي يستحق مزيداً من الإضاءة، والكثير من الاستعادة، رغم أن دويّ تلك الصافرات بقي حبيساً في الفضاء الحمساوي البعيد، ولم يتردّد صداه في غزة.
في المرّة الأولى، كان لافتاً ذلك النقد اللاذع من حاضنة "حماس" في الخارج ضد تهافت قيادة الحركة في غزّة، الواقعة في غرام إيران، نحو دمشق، وكان من المشوّق رؤية رد فعل قيادة يحيى السنوار ومحمود الزهار على ذلك الاحتجاج، الذي مرّ مرور الكرام، من دون أن يثير نقاشاً داخلياً أو يؤدّي إلى مراجعة ذاتية، الأمر الذي يشي بقلة الاكتراث وانعدام الاهتمام بمن شكلوا رأس الحربة الإعلامية في معارك "حماس" مع الداخل الفلسطيني، حول الشرعية والمرجعية والسلطة، ناهيك بمواجهاتها مع الاحتلال. حيث ظل الصمت سيد الموقف، إلى أن تجدّد من جانب واحد قرار العودة المحمولة على جناح وساطة إيرانية قام بها حزب الله.
رغم الضغوط، غير المعلنة، التي مارستها الجمهورية الإسلامية على الأسد المطواع لرغبات آيات الله، لم تنفتح أبواب دمشق أمام "حماس" التي وصفتها أوساط صحافية موالية في ذلك الوقت (صحيفة الوطن) بأنها حركة غادرة، كما طالب بعض الشبّيحة الصغار بأن تأتي الحركة الإسلامية جاثيةً على ركبتيها إن أرادت التنعّم بأفياء بستان هشام بن عبد الملك، إلا أن طهران لم تيأس من المحاولة، فواصلتها عبر حزب الله، الذي انتزع قراراً ثانياً من قيادة الحركة بإعلان نيتها العودة إلى الديار التي كانت قد غادرتها قبل عقد، الأمر الذي أثار حفيظة من تصح تسميتهم "حرس الضمير الأخلاقي" لحركة المقاومة الإسلامية، وهو ما أعاد سيل انتقاداتٍ أعنف من ذي قبل إزاء قيادة غزة، التي وضعت الطين في أذنها اليمنى والعجين في الأخرى، وتجاهلت أصواتاً غير قليلة الوزن، حتى من داخل القطاع المحاصر، إصراراً منها على الاستجابة لوساطة حزب الله.
غداة الإعلان الأول عن قرار الحركة العودة إلى دمشق، وصف أحد أشد المدافعين، بالباع والذراع، عن "حماس" من مقرّ إقامته في أوروبا، ذلك القرار خطيئة كبيرة، ودعا حركته إلى التراجع عنه. أما غداة الإعلان الثاني، فقد بادر الإعلامي نفسه بشن هجوم أشد ضراوة من السابق على تكرار نية العودة إلى جمهورية الكبتاغون (حسب وصف صحيفة لو فيغارو الفرنسية)، وقال كلاماً لا يقوله أشد خصوم "حماس"، كما قدّم نماذج من أقوال ومقالات نجوم كتاب متلألئين في فضاء إعلام الحركة، من داخل غزة وخارجها، أجمعوا فيها على رفض القرار الذي يُراد له أن يعيد ضبط عقارب الساعة الفلسطينية وفق التوقيت الإيراني، فضلاً عن استكثارهم على "حماس"، بما ترمز إليه، الارتماء في حضن نظام لن يقدّم للحركة، في أحسن الأحوال، أكثر من مكتبٍ خاضع لمراقبة استخبارية تعد أنفاس زائريه في الليل والنهار.
خلاصة ما يمكن قوله، في ختام هذه المقاربة المركّزة على جانب واحد من المشهد الأوسع، أن الكتّاب والصحافيين والأدباء وسائر المشتغلين في حقل الإبداع الثقافي والإعلامي، هم من بين أهم الممتلكات القيمية للثورة الفلسطينية، وهم وجهها الجميل وصورتها المشرقة، حيث كان أبو عمّار يسمّيهم سدنة الثورة ويطلق عليهم لقب ضمير الأمة، ويقول لضيوفه من هؤلاء، في ساعة عشاء متأخرة: بدونكم كانت بندقية الثورة ستتحوّل إلى بندقية قطّاع طرق. .. الأمر الذي كان يحمله على الإصغاء لهم، مجاملتهم إلى أبعد الحدود، والمبالغة في تكريمهم، إن لم نقل تدليلهم، ناهيك بدعم مراكزهم البحثية والإعلامية، وإسناد مؤسساتهم العلمية والتعليمية بكل السبل الممكنة، الأمر الذي ازدهرت فيه الحياة  الثقافية الفلسطينية على نحوٍ لا سابق له، وصارت خط دفاعٍ لا يقهر ضد الاحتلال البغيض.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي