مع الرب ضد الكنيسة
أزعمُ أنّ هناك إرثاً ضخماً سقط من تاريخ المعرفة اليوم، وشكّل مساحة فراغ مركزية، في تحديد دوافع تحرير الفلسفة الغربية المعاصرة، وجدل حركة التنوير مع ذاتها، والتوقّف عند عواصف المشاعر والتحولات الضخمة، أو الأفكار المتصادمة، مع أنّها أضحت جزءاً من الميراث العالمي، الذي يُعمّم على القرية الكونية. وعليه، استؤنفت مسارات حديثة، وظلّ النقدُ في هامش هذه الفلسفة يدور حول هذه الرحى. وهذه مهمة كان من الممكن أن تقوم بها رحلة الاستغراب الشرقية التي لم تُغادر موقع الدعوات إلى إنشاء هذا العلم أكاديمياً، وإخراجه إلى عالم الحضور، رغم أنّ بعض ما كُتب من فلاسفة الشرق المتأخرين يُدرج ضمن مهمة الاستغراب، وهو إعادة نقد (وتحرير) إرث هذه الفلسفة الغربية، أو على الأقل شخصياتها البارزة. وكان هذا النوع من النقد سيساعد للخروج من حالة التقليد المتراكمة، والتحوّل عن ذلك المدح المطلق، والذي تراه مرصوصاً في سجلات الترجمة الحديثة لسلسلة كتب هذا الفيلسوف أو ذاك، من دون تحرير رؤية مستقلة ناقدة لأفكاره.
وتُمثّل حياة الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو نموذجاً مهماً لعلاقة اللاهوت المسيحي بحياتهم وبأفكارهم. ونلاحظ هنا أن هذا التأثير لم يكن يقتصر على حالة رفض وصاية الكنيسة فقط، ولكنه متداخل في الذات الشعورية للفيلسوف. وهنا نجد أنّ ديدرو نشأ في الأصل في أجواء كنسية، وكان رجل دين في مطلع حياته، قبل أن يتبرّأ منه والده المسيحي المتشدّد، حين بدأ يتخذ طريقة الكتابة الحرّة. وعاش ديدرو سلسلة من التطورات في حياته الشخصية والفكرية. كان منحازاً للتنوير والثورة على سلطان الكنيسة ومواجهتها، بل إنّه دخل السجن بسبب رسالته في العمى، وواصل تحرير رؤيته في كتاب "الأفكار الفلسفية" وغيرها. وفي كتاب الراهبة، انعكست مشاعر الأسى الشخصية على فقدان أختيه، إذ توفيت إحداهما في أحد الأديرة، ولعلّ ذلك بحسب ترجمته، عزّز غضبه الكامن على الكنيسة.
اتخذ ديدرو في كتابه "مسير المشكّكين" موقفاً فلسفياً يرفض الإلحاد ويدافع عن وجود الرب
في حالة ديدرو، كما هو غيره، تجد أنّ أولئك الفلاسفة الثائرين يتوسعون في علاقة المتعة الجنسية، مع مجموعة من الحسناوات من دون زواج، أو يختصصن بإحداهن كما هي حالة روسّو مع تريز لوفاسور، وكيف أنّ هذا الأمر يشرّع بناء على الثورة ضد الكنيسة أو اللاهوت، والسؤال هنا: لماذا لم تكن العلاقة الزوجية النبيلة، والسكينة فيها، من مخرجات فكر ذلك الفيلسوف، رغم أنّ ديدرو حافظ على رباطه الزوجي، وسمّى ابنته الوحيدة أنجليك، وكان متأثراً بحياة أخته ووفاتها في الدير.
تسبّبت أفكار ديدرو في مواجهة مستمرة مع الكنيسة، حتى أنّ أحد كتبه لم يُسمح له بالنشر حتى وفاته، وجمعت حياته بين الحالة البوهيمية (ممارسة التشرد)، وهو مصطلح استُدعي من حياة الغجر في أوروبا، وسعيه إلى تثبيت مجمع موسوعي، لكنّه خُذل فيه، فيما رعته كاترين الثانية في رحلته إلى روسيا، وكان مخصّصه المالي جيداً بصفته مديراً للمكتبة الوطنية، قبل أن يتوفّى، ويثور جدل عاصف ومعارضة شديدة لرفض دفنه في مقبرة عظماء فرنسا.
اتخذ ديدرو في كتابه "مسير المشكّكين" موقفاً فلسفياً يرفض الإلحاد ويدافع عن وجود الرب. يبدو هذا المنعطف متضارباً مع موقفه الشرس ضد الكنيسة، وكفاحه ضد تسلّطها، وهي ظاهرة تشمل عدداً من آباء الفلسفة الغربية المعاصرة، لكن هناك مرحلة انقطاع غامضة، عن غياب هذا المعنى في مآلات الحداثة الأخير، والتطرّف الذي وصلت إليه. ونحن نطرح هذه التساؤلات، لفهم أثر هذه الازدواجية الغامضة في الاضطراب التفكيري الذي لم يفكّك حتى بعقل مستقل.
البعدُ الأخلاقي مزعج لحرية النزوة الشخصية، فهو يوجّه الفرد نحو الإحسان والنظافة الروحية والجسدية
الجامع هنا بين المؤمنين بالرب، المقاومين للكنيسة، أنّ تلك النخبة رفضت حضور الكنيسة في الحياة التشريعية، بسبب إرث استبدادها ورفضها العلوم العقلية والمعرفة، وهذا مستفيض في تاريخ التنوير الغربي الذي رفض الدين في مساحة الحياة، لكنّه بقيَ حاضراً في ضمير الإنسان الآخر، غير أنّ هذا الإيمان بالرب، رغم أنّه يحمل صرخة احتجاجٍ على الإلحاد، واستدعاء للإيمان الروحي، لكنّه (ربٌ) محتجز عند هذا الفيلسوف، وليس السبب منحصراً، في تقديري، لغرض ردع الكنيسة عن استخدام التشريع باسم الرب، لكنّه أيضاً في حالة الانقطاع وفقدان الدين الأخلاقي، والنزعة التي تغشى أئمة التنوير الفلسفي، لكي تبقى نزواتهم مطلقة غير مقيدة بحدود. ولذلك ورغم تفاصلهم المفترض مع فكرة الإلحاد العدمي، والذي يُفسّر الوجود بالمصادفة ثم المادة المطلقة التي لا روح فيها.
إلّا أنهم، وعلى الأقل في مجموعة منهم، حيّدوا قيم التشريع المفترضة التي يجعلها الله كموجد للكون، قوانين في إطار مصلحة البشرية، فالبعدُ الأخلاقي هنا مزعج لحرية النزوة الشخصية، فهو يوجّه الفرد نحو الإحسان والنظافة الروحية والجسدية، وهذا يمنع الفيلسوف المقصود في حديثنا من الاستمتاع بشهوته والتشريع لها، في ثورته التنويرية المفترضة. ولا أعرف ما معنى أن تضاف رواية ديدرو "الحلي المزيفة" إلى قائمة الإبداع وتدرج في رحلة فلسفته، وقد كتبها بناء على تحدّي عشيقته، حين احتاجت مالاً إضافياً، وهي تقوم على حقيبة اعترافات جنسية، لحشد من النساء، يعرضها سلطانٌ سحري، وما نقل عن ديدرو أنّه لن يكتب مثلها، وأنها حالة شاردة، يُلقي مزيداً من الشك على تأثير حياة الصراع والشك والنزوة، في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة. ولعل هذا الفارق هو الذي برز للمستشرقين عن فكر الشرق ولم يواصلوا تحريره، فهو لا يتناسب مع مهمة تكليفهم الوظيفي، غير أن الفكرة التي انتقلت بين أجيال أكاديمية متعدّدة كانت تستدعي خطيئة محاولة استنساخ موروث الكنيسة على الإسلام، وهو سقوط علمي وأخلاقي، فمع وجود حشودٍ سيئةٍ من فقهاء الاستبداد والتشدد ضد حرية العقل، تقدّم رواية الإسلام الأصلية، وتجربته التاريخية، نموذجاً للإنسان والدين، يختلف عن تناقض الكنيسة والرب والفلسفة والنزوة.