معلّمنا إبراهيم العجلوني
من "نحنُ" في العنوان أعلاه؟ بل لسائلٍ أن يسأل: من هو إبراهيم العجلوني؟ أمّا الإجابتان، فالنحن هنا هم نفرٌ عريضٌ ممن ينتسبون إلى أهل الكتابة والشأنيْن الثقافي والإعلامي في الأردن، منذ منتصف الثمانينيات، وبينهم صاحب هذه الكلمات. أما العجلوني فكاتبٌ أردنيٌّ بديع، كبيرٌ حقا، لم يشتهر عربيا، لغير سببٍ وسبب. ومن غريب ما أحرص على إيضاحه هنا أن المسافة بين مشاغل هذا الأديب، المتفلسف المتأمّل، النظيف، والزاهد الأقرب إلى النسّاك، ومشاغل كثيرين منا نحن، كبيرة. من ذلك أنني لا أراني في المساحة التي أقام فيها أستاذنا، الراحل أول من أمس الأحد عن 74 عاما، صاحب مؤلفاتٍ في التأمل والتفكير، الذهنيِّ في بعضه، الفلسفيٍّ في بعض آخر، التأمليِّ بإشراقات المتفكّر الجوّال في جدالات العقل. ولا أراني من ذوّاقي شعرِه المطبوع بتقليديةٍ لا أستحسنها غالبا، ولا أجد مزاجي انجذبَ يوما إلى السمْت المحافظ الذي ظلت عليه منظورات إبراهيم العجلوني في الأدب. وهنا أتذكّر إننا، زمرةٌ واسعةٌ من الأصدقاء، ضايقنا تولّيه مرّة الإشراف على الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة الرأي... أكتب هذا كله، وفي وسعي إضافةَ مثلِه، وأصرّ، في الوقت نفسه، على أنّ إبراهيم العجلوني معلّم، معلّمنا.
أن تصف شخصاً بأنّه معلّم يعني أنّ سجايا وشمائل وطباعاً فيه، وخياراتٍ أقام عليها، استحقّت أن يُهتدى بها، وأن هناك من استأنس منها ما أفادَه في حياته وعيشه. وتعني أيضا أن في هذا الشخص ما كان عليك أن تتعلّم منه ولم تفعل، في سيرته وما سلكه في دنياه بعض ما ينفعك، وكان من المهم، أو اللازم، أن تقتبس منها ما يفيدك، وعندما لا تفعل يفوتُك ما يفوتُك وتخسر ما كان عليك أن تكسبه. وهنا أراني أقول إن إبراهيم العجلوني كان معلّما، ليت جيلَنا من ناس الكتابة والثقافة والصحافة والإعلام، ومن بعده (ومن بعده؟) أفاد من مكارم غزيرة في هذا الرجل، قرأه وقرأ عنه، اتفق معه واختلف، تعرّف إلى فائض المناقبيّة العالية في شخصه، إلى التواضع الرفيع فيه، إلى الولع بالثقافة والمعرفة، إلى العمق، إلى كل الحبّ الذي كان يفيض به تجاه الناس، إلى ترفّعه ورفعته، إلى مؤاخَذته نفسَه على ما لم يرض عليه، ربما صنعه هنا أو قاله هناك، وإلى رحابة ذهنِه في الإنصات إلى غيره، إلى النأي عن التدافع من أجل منصبٍ أو موقعٍ أو حظوة، وهو الذي استحقّ أن يكون نصيبُه في الحياة أكثر من وظائف تيسّرت له أراها عاديةً، في صحيفة الرأي وفي وزارة الثقافة وفي غيرهما.
لا أتزيّد في القول هنا إن العجلوني، بما كتب وأنتج، لو كان مصرياً أو لبنانياً، لعرفَه القرّاء العرب جيداً، فقد ظلّت إصداراتُه وكتاباتُه، غالباً، في دورياتٍ وصحافاتٍ ودور نشر أردنية، لم تُصب رواجاً وترويجاً واسعيْن في الفضاء العربي. لو قيّض له بعض الشهرة، وكانت له العلاقات الأوسع في هذا البلد وذاك، لو عمل هو شخصيا على التعريف بمنتوجِه بشكل أفضل، لأحبّ القرّاء العرب كثيراً مما كتبَ وجادل فيه، لراقتهم كثيرا لغتُه العالية ومفردتُه الفريدة، لأخذتهم مقالتُه الفائقة القيمة. وهنا، أفتح قوسين، وأجهر بأنّ هذا الرجل، الصموت النبيل والعفيف، كان من ألمع كتّاب العمود الصحافي الثقافي والتأملي (المشحون بالسياسة) في الصحافة العربية. ولطالما حسدتُه (نعم حسدتُه) على أناقة مقالته. وربما ما زال مقيما في حشاياي ذلك التطلّع الذي كنتُ عليه في طورٍ مضى أن يبلغ ما سأكتبه من مقالاتٍ منزلة ما يكتُبه إبراهيم العجلوني (أبو سلطان)، المعلّم في وضوح الفكرة، ورحابة المعجم، وكثافة مبنى المقالة، والبساطة الموحية بثقافة عالية.
غامر العجلوني مرّة بإصدار مجلة فكرية، في مشروعٍ لم يُصب نجاحاً. كان واسع الثقافة. ألّف في التفكير (أحبّذ هذه المفردة على الفكر، بشأن صاحبنا)، وفي الشأن الثقافي الأردني وأسئلته، في قضايا الأمة وراهنها، وفي لحظتها الحضارية، وتسلّح في "إشراقاته" الحسنة، المتصلة بالعروبي والإسلامي بسعة معرفتِه ومطالعاته. جال في الخطاب القرآني والفكر القومي وفي المسألة الديمقراطية، وفي أبي حيان التوحيدي والعقاد والسهروردي، كتب يشدّد على "تقويم اللسان ورهافة الذائقة اللغوية وعُلوَّ البيان وعُمْقَ النظر" ...
نعم، كان إبراهيم العجلوني معلّماً في غير أمر. كان معلّمنا في المقالة الحاذقة، والكتابة الحارّة المعاني، الأنيقة في مبناها ومنطوقها. كان معلّمنا في هذا، لعلنا نأتي بعض ما كان منه وفيه، رحمه الله.