معضلة الأرقام في الجزائر: أين البوصلة؟
انتشرت، في الجزائر، أخيرا، أرقام كثيرة، جاء بعضُها في خطاب لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أمام الولاة، وجاء بعضُها الآخر في تصريحات لمسؤولين، منهم وزراء لقطاعات حسّاسة، وهي أرقام أوجدت تعاليق وجدالات، ذلك أنّها لا تشير إلى مصادر تم استقاؤها منها، أو أنها، من ناحية ثانية، لا تُترجم مسارا لبنك بيانات وإنتاج للمعلومات والإحصائيات، وفق المنهجيات المعمول بها في هذا الباب، ويجعلها، أي الأرقام، إشكاليةً تستدعي الاهتمام بها إنتاجا، استخداما، إضافة إلى ما تشير إليه عند مقارنتها مع أرقام للشّأن نفسه، صادرة إمّا عن مؤسّسات وطنية أو مستقاة من مصادر أجنبية (تقارير عن مؤسّسات دُولية، إقليمية وعالمية).
معروفٌ أنّ السّياسة العامّة في كلّ القطاعات تقوم، أساسا، على مؤسّساتٍ مهمّتُها المركزية التي أُنشئت لها تتمحور حول إنتاج المعلومات وتتبّع الأرقام عن كلّ القطاعات، لتكون هي البوصلة الموجّهة للموارد والجهود تخطيطا، تنفيذا، تقييما وتقييما/ استشرافا. وبالنّتيجة، جعلت الدُّول من إنتاج تلك الأرقام أساسا للتّدقيق، المراقبة والمحاسبة، سواء عند تعيين المسؤولين، أو في مسار الانتقاد لحكومة ما، جرى انتخابها على أساس برنامج انتخابي، تكون قد فشلت في تجسيد وعودها التي تُقاس بتلك الأرقام، كما يمكن لتلك الأرقام أن تكون شاهدا على الإنجازات، والتقدّم في تنفيذ المشروعات أو عن التّأخّر وتستدعي، لذلك، مقاربات الاستدراك أو التّقويم الكلّي والكامل، ما ينم عن أنّ الإحصائيات والأرقام حيوية، بل استراتيجية، إلى حدّ بعيد.
تحتاج الإحصائيات التّي سمعناها من بعض المسؤولين إلى تدقيق، لتعكس الواقع كما هو، ولا تتعرّض للنقد
تولّدت عن تلك الأرقام ما أضحت تُعرف بالمؤشّرات والمقاييس، وهي أساسيات العصر الحديث في الحوكمة لكلّ القطاعات. وبالتّالي، لا يُمكن الحديث عن أيّ إحصائية من دون أن تكون لها مرجعية المؤسّسة التي أنتجتها، والمقاربة التي أدّت إلى تثبيتها. ولنأخذ مثالا عن إحصائيات البطالة والتناقضات في تعريف المفهوم، بدايةً: هل نحن مع من يطالب بالعمل، الباحث عنه بعد التسريح، هل نحن مع من يريد تأهيلا ثم تعيينا في منصب عمل يوافق التكوين أم نحن، على العكس من ذلك كله، مع طالب للعمل موسمي، بالعقد المؤقت، أو عامل بعقدٍ غير محدّد الزمن؟
من ناحية أخرى، بالنّسبة للمثال نفسه، أي ظاهرة البطالة، ما هي مقاييس الحساب، هل تُؤسّس على نسبة العاملين إلى نسبة اليد العاملة في البلاد أم هل تؤسّس، على النقيض من ذلك، وفق كل من له عمل، أيّا كان: موسميا، دائما، مؤقّتا، رسميا مُسجّلا لدى المؤسّسات أم غير رسمي ... إلخ؟ ليتبيّن، في الأخير، أنّ مقاربة الوصول إلى الإحصائية تعتمد على مسار يشمل خطوات عمل، منها تعريف المفهوم، إبراز طريقة الحساب للوصول إلى إقرار الرقم، ثمّ زمن الحساب (السّنة، نصف السّنة، الفصل أم شهريا)، إضافة إلى معطياتٍ أخرى، منها ما هو الفريق الذي قام بالعملية الإحصائية أو المؤسّسة، وهل لها مرجعية العمل الدقيق، وصولا إلى مقارنة تلك الأرقام مع مصادر إمّا داخلية من مؤسّسات مماثلة (الجامعات ومراكز البحث، محلية كانت أم عالمية) للقرار، في النهاية، للرقم المتوسط الجامع بين تلك الأرقام كلّها.
على هذا، تحتاج الإحصائيات التّي سمعناها من بعض المسؤولين إلى تدقيق، لتعكس الواقع كما هو، ولا تتعرّض للنقد. ويقال عنها إنها إحصائيات مضلّلة وموجّهة لخدمة أغراض دعائية ليس إلّا. ولنأخذ، هنا، رقما أثار جدلا، سواء داخليا أو على مستوى التهكّم لدى الجوار، أو على وسائل الإعلام. وفي العالم الافتراضي، ويتعلّق الأمر برقم جاء في تصريح لوزير السياحة في الجزائر، حيث قال إن 120 من المصطافين زاروا السواحل الجزائرية خلال فصل الصيف المنتهي منذ أيّام.
بداية، يجب الوقوف عند كلمة مصطاف، أي المرتاد للسواحل من الجزائريين، بصفة خاصة، حيث إن المفهوم يختلف جذريا عن مفهوم السائح، ما يعني أن الاستخدام كان صحيحا من الوزير الذي يكون قد اطّلع على الانتقادات التي وجّهت لمسؤولين محليين في قطاع السياحة، استخدموا فيه مفهوم السائح، وليس المصطاف، وتحدّثوا عن أرقام مبالغ فيها كثيرا، يصعب التأكّد من صحتها أو ترجمتها للواقع.
لا يمكن لأي اقتصادٍ أن يسجّل إنجازات، يخطط للمشاريع، يقيم المشاريع أو يقيّم أخطاءها إذا لم تتوفّر، وبدقّة، الأرقام التي تؤشّر إلى التوجه
تشير كلمة مصطاف إلى مرتادي السّواحل من شواطئ ومستخدمين للخدمات الملحقة بها من مطاعم، مواقف للسّيارات أو الخدمات على مستوى تلك الشّواطئ في حد ذاتها. وعند إخضاع المصطلح للقياس، لم يحدّد المسؤولون المحليّون عن السّياحة المقاربة التي سمحت لهم بالحديث عن ملايين بعينها، لأنّ المصطاف قد يأتي مرّة ومرات. وقد يغيّر الشاطئ. وينتقل من مدينة إلى أخرى، وقد يكون مقيما في شقّة غير مُسجّلة على أنّها مرفق سياحي، ما يجعل مقاربة القياس صعبة جدا، وتنتج عنها تلك الأرقام المهولة والمبالغ فيها كثيرا.
أدّى تراكم هذه الإحصائيات غير الدّقيقة إلى إنتاج الرقم الذي تحدّث عنه الوزير الذي يتضمّن جانبا صحيحا من حيث المفهوم، ولكن من دون وجود مرجعية مقبولة لأداة القياس، وهو ما يمكن انسحاب أثره على أرقام جرى تداولها في قيمة الدينار الجزائري ارتفاعا، وفق بعض المصادر، أو بالنّسبة للمؤشرات الاقتصادية الكلّية والإنجازات في بعض القطاعات.
بالنّتيجة، وربما لتدارك الأمر وتصحيح الأخطاء، انطلقت، قبل أيام، العملية الإحصائية الوطنية، وهي العملية المعروفة في مقاربتها وفي نتائجها، لأنّ من يقوم بها جهاز له مصداقية من حيث دقّة الدّراسات والأرقام التي يصدرها، وله سوابق في العمل وفق المنهجيات المعروفة في عالم إنتاج الإحصائيات، وهو الدّيوان الوطني للإحصائيات، بالتّعاون مع وزارات عديدة، لتكون المحصلة النهائية أن عالم الأرقام يشير إلى مقاربات، دقّة ومسار لإنتاج بيانات مهمّة جدّا في توجيه بوصلة السّياسات العامّة من حيث التّمويل لقطاعات بعينها، توفير خدمات، تطوير منشآت وتوجيه الاقتصاد والمجتمع برمّته.
يجب توجيه الأمر بتغيير منهجية إنتاج الأرقام ومرجعية الاستخدامات المختلفة لها
لا يمكن لأي اقتصادٍ أن يسجّل إنجازات، يخطط للمشاريع، يقيم المشاريع أو يقيّم أخطاءها إذا لم تتوفّر، وبدقّة، الأرقام التي تؤشّر إلى التوجه، وتوجه البوصلة الخاصة بالتخطيط، التنفيذ والتقييم ثم التقييم والاستشراف. وعلى هذا، ستكون العملية الإحصائية الوطنية المشار إليها دليلا للمسؤولين، كلهم، عن أرقامٍ، يجب أن تبيّن لهم مقاربة إنتاجها كيفية الحديث عنها ثم كيفية استخدامها لتعليل القرارات التي اتخذها هؤلاء، كل من منصبه، ومن وحي ما يقوم به من مسؤوليات. وبذلك نتوقف عن اجترار أرقام لا معنى لها ولا مرجعية لها. ونمنع، بالتالي، التهكم على وسائل التوصل الاجتماعي. ويتوقف، أيضا، التدليل بتلك الأرقام على أن ثمّة تضخيما للإنجازات أو تضليلا للرأي العام، وكذلك غلق الباب، تماما، على الفساد من خلال تلك الاستخدامات غير الدقيقة للمؤشّرات الرقمية، وهي تجربة نعرفها في العقود الأخيرة، عندما توفر المال على أثر ارتفاع مداخيل الجزائر من النفط، ولم يتم حساب المضيّع من تلك الأموال بدقة، لأن مقاربات إنتاج البيانات كانت كلها خاطئة. وكانت البوصلة الإنجازات، ولكن بدون إحصائيات، ولا متابعة لدقّتها ومرجعيتها.
على هذا، يجب توجيه الأمر بتغيير منهجية إنتاج الأرقام ومرجعية الاستخدامات المختلفة لها، كما يجب توجيه الأمر إلى المسؤولين، كلهم، بالكفّ عن الحديث عن إحصائيات غير رسمية أو غير منتجة بالمقاربة الدقيقة، كما يجب تكوين كل المسؤولين على المقاربة الصحيحة في التخليق على الأرقام، لأنّ المهمّة دقيقة، ولها تبعات من متابعة، تدقيق ثمّ محاسبة ونهاية، أو إما مواصلة العمل أو التوجُّه نحو إقرار الفشل.