معجزة أن تكون كاتباً
أن تكون كاتبا في مصر من دون أن تدفع الثمن، فتلك معجزةٌ يستحيل تصديقُها عربيا، وخصوصا وأنت غير مصنّف سياسيا، وليس لك قعدة في مقهى أو شلّة محبّبة، أو لا تعمل بالصحافة أو الإعلام. أما لو كنت من الأقاليم، وقد وصلت إلى القاهرة بعد خراب مالطة، فعند ذلك انتظر معجزةً تأتيك من السماء، أو انتظر قدرَك المحتوم على المقهى، وغالبا يكون القهر أو الكآبة أو الأحقاد تطلقها هنا أو هناك أو تعلم الترجمة إنقاذا لروحك من الجنون. أما الاتصال بالمراكز الثقافية للحصول على عمل، فذلك في يد العائلات الأكثر سطوة ثقافيا. وأخيرا حاول هنا أو هناك للالتحاق بالعمل الأهلي، كي تنشط قصصك القصيرة وتدفعها إلى الأمام في وسط دائرة الضوء. أما لو فاتك القطار، فالتحق بمجموعات تجديد الخطاب الديني، وحبّذا لو كنت في مجموعة خالد منتصر. أما الشعر، فعليك أن تخزنه في البلاليص حتى تمر سطوة أيام الرواية، وإن لم يعز عليك الشعر، فجرب كتابة الرواية بشرط أن تتعرّض لناقدين أو أكثر في الطريق العام كي تضمن لك مكانا لنيل جائزة من هنا أو هناك. أما لجان جوائز الدولة فهي مغلقة على أبناء أي نظام وكهولته، وعند ذلك لم يبق لك سوى الهجرة أو العمل بالفضائيات كرجل ظل، حتى تأتيك الفرصة أو الحظ، أو كوّن حزبا صغيرا، ولا مانع أن تترشّح للرئاسة كما حدث لبعض الكاتبات، حتى تم فصلهن من الجامعة أو بمعاش مبكر. أما لو كنت كأحمد الفضالي مثلا، وأظنّه كان من كتّاب المسرح الجماهيري الفكاهي، وخصوصا في مناطق معروف والتحرير، ونسي المسرح الجماهيري تماما والفكاهة أيضا، فعليك أن تترشّح للرئاسة، وطريق الشيخ الصبّاحي دائما تتم إعادة فرشه بالورد والطرابيش والجنيهات التي تدخل إلى جيب الصديري ولا تخرج أبدا في كل استحقاق رئاسي.
أما لو كنت مجنونا بالكتابة، كيحيى الطاهر عبد الله، رحمة الله عليه وقد صمّمت أن تكتب في خانة المهنة الخاصة بك "كاتب قصة قصيرة"، كما فعل يحيى بأعجوبةٍ يُحسَد عليها، فعليك أن تنتظر الجنون الفعلي، وهذا إن حنّ عليك الجنون وترفّق بك وأتاك، أما إن لم يأتك، وغالبا لن يأتيك، فسيكون مصيرك الموت مبكرا كما حدث مع يحيى الذي حاول جاهدا أن يفرّ من الموت لحظة انقلاب السيارة في طريق الهرم، فانقلبت السيارة بالجميع مرّات على أحجار الشارع، وبقي كل من ظل في السيارة على قيد الحياة، إلا يحيى الذي حاول الفرار من الموت، فتهشّم رأسه فوق حجر.
أما لو كنت مثل سعد الدين حسن، أمدّ الله في عمره، واحتفظ دائما بصورة بطاقة له قديمة، مكتوب فيها، الوظيفة: "كاتب قصة قصيرة"، فظلّ الضابط يضحك معه طوال الليل وهو يسأله: "هي القصّة القصيرة هي ال بتجيك ولا أنت ال بتروح عندها؟"، فسكت سعد ثم بدأ في الضحك قائلا: "يا فندم القصة هي ال بتجيني وكمان بتكون راكبة فرس"، ضحك الضابط وقال لسعد: "ده أحنا باين هتكون ليلتنا حلوة".
يضحك سعد حينما يتذكّر هذا الموقف، ويتذكّر كتبه ومكتباته المتنقلة الصغيرة التي تركها في بيوته القديمة التي تنقل فيها من بيت إلى آخر ومن غرفة إلى أخرى خمسين سنة، حتى انتهى به الحال أن يُساكن أولاد أخ له مات من زمن، ويتذكّر شخصيات فقيرة من "ألف ليلة وليلة"، وشخصيات أخرى من كتاب "الأغاني". يحنو الليل على الجميع، بمن فيهم سعد، ويتألق في الكلام ويذوب مع اللحن، حتى يجيء آخر الليل، فيأخذ نفسه ويعود إلى قريته "بشبير الحصة"، تاركا في القلب هذا الخاطر المجروح لشخصٍ طيب أخلص تماما للكتابة وللقصة القصيرة، وظلّ لا يعمل في أي شيء سواها.
هل دائما يكون حالنا هو هذا الحال. تأخذ طرقات الليل سعدا إلى بلدته، وبعد شهور تراه وكأن لم يحدُث له أي شيء في العالم، وكأن كل الحروب ما كانت، ولا مباريات كرة القدم ولا الأفلام التي نزلت واستمرّت أو الافلام التي تم رفعها من السينمات بعد يوم أو أسبوع، يبتسم سعد تلك الابتسامة الراضية كنبيلٍ قديمٍ لم يعد يمتلك سوى ثيابه ويأخذ نفسا عميقا من السيجارة ويبدأ الكلام طيّبا، فتتذكّر أن هناك كاتبا، وهو أرنستو ساباتو مات قبل أن يكمل المائة سنة من عمره بيومين، وكان دائما يقول: "يا ليتني كنت سمكري سيارات في حارة سد ولا يعرفني فيها أي أحد"، فمن أين، يا تُرى، كل هذا التواضع؟