"مظلومية" ترامب

01 ديسمبر 2020
+ الخط -

مع أنه أظهر تجاهلاً وعناداً كثيرَيْن، ومارس سياسة الإنكار، وظل يكابر ويجادل ويراوغ من دون انقطاع، غير أن من شبه المؤكد أن الرئيس الأميركي المفتون بنفسه، الواثق من إعادة التجديد له في البيت الأبيض، لم يكن في دواخله على الصورة المتماسكة التي أراد تظهيرها للخارج، فقد صدمته النتائج الأولية غير المواتية للانتخابات الرئاسية، هزّته هزّاً عنيفاً، وبدّدت يقينه الراسخ عمليات فرز الأصوات مع مرور الوقت، وربما جافى النوم عينيه ساعاتٍ طوالاً، وقضى بعض الليالي البيضاء، بعد أن بدأ فرز الولايات المتأرجحة تدريجاً في حسم السباق.
وأحسب أن دونالد ترامب حين كان، في الأسابيع القليلة الماضية، يضع رأسه على وسادته المحشوة بالغرور والأكاذيب والترّهات، كان يُسائل نفسه بحُرقة، كل ليلة من لياليه الطويلة: كيف لي أن أخسر هذه المباراة التي أعددت لها العدّة الكاملة من دون نقصان؟ كيف لجو بايدن "النعسان" الباهت، فاقد الكاريزمية، قليل الحيلة، أن يفوز بكل هذه الأصوات؟ من مثلي صال وجال، أقام الدنيا وأقعدها، عبر الحدود واجتاز القيود، كسر قواعد اللعبة التقليدية، ألهم الملايين وشدّ عصب الأميركيين، أوْفى بوعوده، وربح معاركه على كل صعيد، كيف بحق الجحيم يخسر الرهان؟
وسط فيضٍ من علامات التعجب التي راحت تداهم عقل ترامب، من قُبل ومن دُبر، بعد أن تراءت له الخسارة المحققة رؤية العين المجرّدة، من المرجح أن الرئيس المقهور قهر اليتيم على مأدبة اللئيم، قد طرح على ذاته أسئلةً أكثر إلحاحاً من سابقاتها، وأشد مضاضة من كل ما عداها: كيف لي أن أُهزم هكذا، وقد هزمت كل استطلاعات الرأي قبل أربع سنوات، تماماً كما هزمت فيروس كورونا قبل أربعة أسابيع؟ أين ذهب الزخم الذي خلقته بيدي، وأين ضاعت الهستيريا والديماغوجيا التي صنعتهما بنفسي؟ كيف سأتراجع، وقد قلت إنني الفائز مهما كانت نتيجة الانتخابات؟ 
على أن السؤال الأكثر أهمية الذي ربما ألحّ على ذهن ترامب على مدار الساعة، وظل يعذّب قلب الشعبوي الأكبر حتى النفس الأخير: ماذا سأصنع بأصوات نحو 74 مليون مواطن أميركي شديدي البياض، نفروا معي على السرّاء والضراء، ركضوا ورائي بعيونٍ مغمضة، آمنوا بي وصدّقوني على طول الخط؟ وماذا عن 88 مليوناً يتابعونني على "تويتر"، هل أقول لهم انتهى الأمر وانفضّ السامر، أم أقول لهم يا قوم، لقد خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب، وليس مسموحاً لنا البكاء على اللبن المراق؟
وباعتبار أن رؤية ترامب لنفسه المتضخّمة حد الورم، تجعله غير قادرٍ على استيعاب مفهوم الخسارة، والتنازل ببساطةٍ عن منصب رئيس رؤساء العالم، وحقيبة المفاتيح النووية، وقيادة قوات الدولة العظمى الوحيدة، فمن الواقعي أن يمضي المريض بجنون العظمة إلى خلق واقعٍ من صنع خياله، وأن يعيش الدور كله، أن يعمد إلى احتكار منزلة الضحية، وهي المعادل الموضوعي لموروث المظلومية الشائع في الثقافة الإسلامية، الأمر الذي يبرّر لديه مواصلة الزعم أن الانتخابات مزوّرة، ويسوّغ عنده رفض تسليم السلطة، ويوفر له في الحد الأدنى، وهنا بيت القصيد، الأرضية المناسبة للتحوّل من رئيسٍ سابقٍ إلى زعيمٍ يقف على رأس حركة جماهيرية، قوامها نصف الشعب الأميركي.
ولعل المعطيات الأولية الدالة على مسعى ترامب، الهادف إلى إقامة البنية التنظيمية لمفهوم الضحية، أو قل المظلومية بالمعايير الأميركية الحديثة، ماثلة في حقيقة أن ترامب ذهب إلى القضاء شاكياً، وإلى أنصاره محرّضاً، وراح يقدّم نفسه للجميع أنه الأب المؤسس، إن لم نقل عرّاب اليمين الأبيض المسيحي المتديّن المتعصب، أتت به الأقدار لإنقاذ أميركا من هيمنة الملونين والسود والمسلمين والمثليين والمهاجرين غير الشرعيين، إلا أن ثلة من اللصوص الديمقراطيين اليساريين الأوغاد تآمرت عليه، غافلته وسرقت منه فوزاً كان قاب قوسن.
تتحدّث الأخبار المتواترة عن عزم ترامب على إنشاء شبكة تلفزيونية خاصة به، بعد أن خاب أمله بشبكة فوكس نيوز المفضلة لديه حتى الأمس القريب، كي يقصّ من على منصتها سردية الجَوْر والظلم، وفصول المؤامرة الجهنمية، وحكاية حرمانه الفوز "عينك عينك"، وفي ذلك إشارة ذات دلالةٍ على أن اللعبة الماجنة بدأت تُغوي ترامب، وأخذ يروقه لعب دور الضحية، الأمر الذي يقتضي منه تفصيل قميص عثمان جديد، من ماركة أميركية مسجّلة، ومن ثمّة تقمّص هيئة القائد العابد الناسك المخذول، صاحبة المظلومية التاريخية الشهيرة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي