مطارحات في ما جرى وما يجري في فلسطين
كان السياسي والأديب البريطاني بنجامين دزرائيلي يُردّد دائمًا: "ما نتوقّعه نادراً ما يحدث وما نستبعده غالبًا ما يحدث". والحادث الذي ما كان ممكنًا توقّعه قبل سنة مثلاً، هو مثول إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، وصدور طلب من المُدّعي العام كريم خان في 20 مايو/ أيّار 2024 بالقبض على بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت (علاوة على كل من إسماعيل هنيّة، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف). والحادث الثاني، غير المتوقع أيضًا، امتناع بريطانيا وفرنسا عن التصويت إلى جانب الولايات المتّحدة في مجلس الأمن في 19 إبريل/ نيسان 2024 في شأن منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتّحدة؛ فقد صوّتت الولايات المتّحدة وحدها بالرفض، فيما امتنعت بريطانيا وفرنسا عن التصويت، خلافًا لتاريخ طويل من المواقف المتطابقة من قضية فلسطين، وقد نالت فلسطين في تلك الجلسة التاريخية 12 صوتاً. وفي 10 مايو/ أيار 2024 صوّتت الجمعية العامة للأمم المتّحدة بأغلبية 143 صوتًا إلى جانب التوصية المرفوعة إلى مجلس الأمن بإعادة النظر إيجابًا في شأن العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتّحدة (عارضت التوصية تسع دول وامتنعت 25 دولة فقط). وعلى الفور، كرّت حبّات السُبحة الأوروبية، وراحت دول أوروبا تتبارى في الاعتراف بـِ "دولة فلسطين" (النرويج التي كانت مرتعًا للموساد، وبلجيكا عاصمة الاتحاد الأوروبي، وأيرلندا نكاية بإنكلترا، وإسبانيا الصديقة للعرب). وكانت مملكة السويد افتتحت هذا المسار في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، حين اعترفت رسميًا بدولة فلسطين.
هذا المسار السياسي المتفاعل والجديد لن يؤدّي فورًا إلى قيام دولة فلسطينية مُستقلّة، لكنّه يفتح أفقًاً سياسيّاً جدّيّاً سيؤدّي يوماً ما، وفي أحوال ملائمة، إلى تأسيس دولة فلسطينية، لأنّ مَنْ يتمكن من وضع نفسه في خريطة السياسة العالمية اليوم، سيكون في إمكانه أن ينتزع لنفسه مكانًا على الخريطة الجغرافية غدًا. والحادث الأكثر إدهاشًا وحيويّةً، وغير المتوقع في الوقت نفسه، هو انتفاضة طلّاب العالم ضدّ إسرائيل وضدّ سياسة الولايات المتّحدة في فلسطين، واشتعال باحات الجامعات وساحات المدن بالمتظاهرين الشجعان الذين يعلنون، صبحَ مساء، تأييدهم للشعب الفلسطيني، ويندّدون بفاشية الجيش الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية في كلّ يوم. وها هي صورة إسرائيل تتفسّخ، الآن، في أذهان الطلاب والمُتظاهرين؛ فقد كانت إسرائيل في الثقافة العامة الأوروبية والأميركية، ولدى الرأي العام الغربي، مسألةً شديدةَ الحساسيةِ لارتباطها في وعي بعضهم بقضايا دينية ولاهوتية، ولدى بعض آخر بالمسألة اليهودية واضطهاد اليهود في أوروبا، ولدى صانعي القرارات بمفاهيم الأمن القومي على النطاق العالمي. لكنّ تلك الصورة تتكسّر الآن، ويتناثر حطامها، وما عادت كما كانت في الماضي إطلاقًا. وبدأ الوعي الجديد الناشئ في صفوف الشبّان الأميركيين والأوروبيين، فضلاً عن شبّان العالم بأسره، بما في ذلك اليهود أنفسهم، يرسم ملامح جديدة لإسرائيل؛ دولةً عاصيةً تُشكّل تهديدًا للاستقرار العالمي، ونقيضًا للقيم الانسانية، وخطرًا وجوديًا على جماعة موصوفة من البشر؛ هم الفلسطينيون؛ دولةً تمارس الإبادة الجماعية والتدمير والتجويع والتشريد، وها هي تُحاكَم أمام محكمة العدل الدولية وأمام المحكمة الجنائية الدولية، وتُجرَّم باستمرار، وتتمرَّدُ على الأحكام الأمميّة في الوقت نفسه.
لتكن الغاية هي نزع الشرعية السياسية والقانونية والتاريخية عن إسرائيل استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية وإلى قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية
تذكّرنا انتفاضة الطلّاب في جامعات أوروبا والولايات المتّحدة بثورة مايو (1968) في باريس وضواحيها، التي قادها دانيال كوهين بانديت وآلان فيمار، وسارَ في ركابها ميشال فوكو وجان بول سارتْر وسيمون دي بوفوار وجيل دولوز وجان لوك غودار، وكثيرون آخرون. ويعيد هذا الحراك، الذي لا يهدأ، إلى الذاكرة ثورة الييبيز في أميركا "Youth International "Party (الحفلة الأممية للشبّان)، التي قادها جيري روبين وشارك فيها ألدريج كليفر، زعيم حركة الفهود السود؛ تلك الثورة التي أطلقت موجة اليسار الثوري الأميركي، ووقفت ضدّ الحرب في فيتنام. والييبيز غير الهيبيز، فالهيبيز لا يؤمنون بالعنف، فيما الييبيز مارسوا العنف ضدّ المؤسّسات العسكرية الأميركية. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كثيرين من قادة ثورة 1968 في باريس ارتدّوا في ما بعد إلى اليمين، وصار قادة الييبيز رجالَ أعمال يمينيين، مثل جيري روبين صاحب كتابَي "أسرق هذا الكتاب" و"هيّا إلى الثورة"، وآبي هوفمان وألدريج كليفر. ومعظم أَعلام المحافظين الجدد في أميركا كانوا، في أحد أشواط مسيرتهم السياسية، يساريين وتروتسكيين بالتحديد. أما ألدريج كليفر فقد تحوّل إلى كنيسة يسوع المسيح لقدّيسي الأيام الأخيرة (المورمون)، وبات جمهوريًا محافظًا.
يجب الانتباه إلى أنّ الرأي العام الطالبي مُتقلّب ورجراج، وغير ثابت إطلاقًا. وحياة الطلبة في أثناء الدراسة الجامعية شديدة التبدّل: ثلاث سنوات، أقلّ أو أكثر، ويذهب كلّ طالب إلى مكان جديد ليعمل، ويحلّ محلهم جيل جديد. وهكذا، تتعاقب الأجيال وتنحلّ الروابط إلا القليل منها. وعلى هذا القياس فإنّ الرأي العام مُتغيّر بالتأكيد، وغير متجانس، وثمّة عناصر شتَّى تساهم في تشكيله؛ الثقافة والمرحلة العمرية والثقافة والانتماءات السياسية والحزبية والأصول الإثنية والإيمان الديني والإعلام... إلخ. وبهذا المعنى، لا يمكن الركون إلى ثبات المنحى الاحتجاجي للطلبة، مع أنّ وعيًا جديدًا يتبلور يومًا بعد يوم. ففي الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987 (انتفاضة الحجارة)، ناصَرَنا الرأي العام الأوروبي بقوّة، ودخلت كلمة "ntifada" القاموس اللغوي والإعلامي، ولم تكن ثمّة فضائيات لتنقل الحوادث لحظة بلحظة. لكن، في انتفاضة سنة 2000 (انتفاضة الأقصى)، تغيّر الرأي العام الأوروبي كثيرًا، وحاد عن المناصرة لأنّه لم يتقبّل العمليات الانتحارية (الاستشهادية) في الأماكن المدنية ضدّ اليهود. والطلّاب اليوم، ومعهم صنوف شتَّى من الناس، يتظاهرون بشجاعة دفاعًا عن الضحية (الفلسطينيين) وليس انتصارًا للقضية. والتحدّي السياسي يكمن هنا بالذات، أي في تحويل التضامن مع الضحية إلى وعي عميق للقضية لدى الرأي العام الأوروبي والأميركي، وهو ما يبني عناصر الثبات والاستمرار في الوعي الجديد. وأولئك المتظاهرون لا يتّفقون مع الاسلاميين، خاصة حركة حماس، في معتقداتهم وآرائهم وفِكَرِهم، لكنّهم يخرجون إلى التظاهر دفاعًا عن قضية فلسطين وعدالتها ورمزيتها الأخلاقية والسياسية. إنّنا أمام جيل جديد غير أيديولوجي يحمل أخلاقيات جديدة، وحين يشاهد ما يجري في غزّة يسارع إلى التظاهر، ليس على قاعدة يمين ويسار مثلًا، أو إمبريالية وشيوعية وعالمثالثية، بل على أسس تتخطّى الأيديولوجيين إلى الأخلاقيات، وإلى وعي سياسي جديد.
يجب الانتباه إلى أنّ الرأي العام الطالبي مُتقلّب ورجراج، وغير ثابت إطلاقًا. وحياة الطلبة في أثناء الدراسة الجامعية شديدة التبدّل
ملحمة غزّة، والتراجيديا الانسانية التي ينسجها أهالي غزّة في كلّ يوم، والبقاء في المكان (وهو معجزة الفلسطينيين الراهنة)، ذلك كلّه أسهم في قدح شرارة الانتفاضات الطالبية في جميع أنحاء العالم، وإطلاق تلك الطاقة التعبيرية الرمزية لحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في مأساته الحالية. ولكن، ينبغي ألا ننسى الخمائر التي زرعها مُفكّرون وأكاديميون وناشطون فلسطينيون وعرب، طوال سنوات أمضوها في المَهَاجر الأميركية والأوروبية أمثال فايز صايغ، وإبراهيم أبو لغد، وهشام شرابي، وإدوارد سعيد، ووليد الخالدي، وكلوفيس مقصود، ورشيد الخالدي، وبشارة خضر، وإيلان هاليفي، وإدمون عمران المليح، وغيرهم. والمعروف أنّ اهتمام الجامعات الأميركية بتدريس مساقات (courses) عن الشرق الأوسط ازداد بعد احتلال أميركا العراقَ في سنة 2003، ولهذا وظّف عددٌ كبيرٌ من الأساتذة العرب لهذه الغاية. وهؤلاء نقلوا إلى الطلّاب الأميركيين آراء جديدةَ وأفكارًا مُختلفةً. ثمّ كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورها الهائل مصدراً أساساً للمعرفة ووسائل وتبادلها. وقد تفاعلت هذه العناصر كلّها لتُطلِقَ حركةً احتجاجيةً نادرةً كما نراها جميعنا اليوم.
أصبحت قضية فلسطين على جدول الأعمال السياسي لدول العالم بأسره. لنتذكّر أنّ انتصار الجزائر، وإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وزيمبابوي (روديسيا سابقًا)، وإرغام الجيش الأميركي على الانسحاب من فيتنام، ما كان ليتحقّق إلا بعد أن صارت هذه القضايا مسألةً داخليةً في الولايات المتّحدة وفرنسا، وباقي دول أوروبا. وحين تصبح قضية فلسطين (وها هي تقترب من ذلك) مسألة داخلية في الولايات المتّحدة نكون بدأنا اجتياز الشوط الأخير نحو الاستقلال. ولعلّ الوعي الجديد لدى الطلبة والشبّان سيترك أثره، حقًّا، في الخيارات السياسية للأحزاب الأوروبية في المدى القريب، وسيكون له شأن في اتخاذ القرارات وصنع السياسات، لاحقًا.
منذ اليوم، لتكن الغاية هي نزع الشرعية السياسية والقانونية والتاريخية عن إسرائيل استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية (القرارين 181 و194، وما جاورهما)، وإلى قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، القديمة والآتية. ومن دون ذلك ستتطاير هباءً أوراقُنا السياسية، ولن تحصد السياسة ما زرعته البندقية.