مصر وتركيا ... الانتخابات وغيرها
يحبّ قطاع من المصريين، بعضهم محسوب على المعارضة وآخر على الأكاديميا والجزء الأكبر من مؤيدي النظام بلا عقل، دائما المقارنة مع تركيا، مع أنها ليست في صالح مصر، وشديدة المرارة على أي وطني مخلص أو أي شخصٍ يحاول أن يتحرّى الموضوعية بينما تجري في ذهنه دائما أسئلة من قبيل لماذا تقدّموا وتخلفنا؟ لماذا تجاوزوا كل هذه الإشكالات وما زلنا نرجع إلى الوراء ونتخلف كثيرا؟
وكثيرون من محبّي التعميمات السهلة والمريحة عندما تحدّثهم عن أية تجربة مشابهة من العالم الثالث استطاعت النهوض وتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية وقطعت شوطا لا بأس به في طريق الديمقراطية، حتى وإن لم تصل إلى الرسوخ الديمقراطي بعد، يسارع بإلقاء عبارة "كلها ديكتاتوريات مثل بعضها" في وجهك، لكي يريح ضميره من البحث في أسباب التخلف، أو حتى في البحث لنفسه عن مخرج من تهمة تأييد الديكتاتورية ذاتها.
تعال معي، صديقي العزيز من مروّجي هذا التعميم الساذج، لكي أنقل لك مشاهد من الشارع التركي، لكي نعرف معا إلى أي مدى الفرق شاسع بين التجربتين. ومع الأسف، بكل المقاييس هناك فروق كبيرة ربما ترقى لعقود من التطور لا يمكن اختزالها بسهولة.
مؤشّرات مصر في الخدمات العامة الصحية شديدة السوء مقارنة حتى بدول عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء من حيث الإنفاق
منذ أشهر، كان أصدقاء كثر يتساءلون بسذاجة أو حتى بنبرة جدّية على طريقة عمرو أديب: لماذا لا تستقبل مصر سياحة مثل تركيا. وردّت كتابات عديدة على هذا من منطق غياب الدولة والنظام والخدمات العامة والفروق الشاسعة بين الحالتين في مؤشّرات عديدة خاصة بهذه المجالات. من العجيب أن تجد طبيبا نقابيا يفترض أنه مطّلع على إحصائيات نقابته بشأن هجرة الأطباء، والتي تشير إلى أن عدد الأطباء المصريين في الخارج أكبر من أعدادهم في الداخل، وأن هناك عجزا شديدا في تخصّصات طبية عديدة، وأن مؤشّرات مصر في الخدمات العامة الصحية شديدة السوء مقارنة حتى بدول عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء من حيث الإنفاق، ثم هو يتساءل: لماذا لا نصل إلى المستوى نفسه من السياحة العلاجية في تركيا ما الذي ينقصنا؟
صديقي العزيز: ينقصنا الكثير، فلا توجد دولة تعرف معنى الخدمات العامة، بل يندُر أن تجد فيها حماما عاما أو حديقة عامة. وبالطبع، هي لا تعرف مؤشّرات تحسين تلك الخدمات، أو تسعى إلى تحسين أجور الأطباء ضمن كل مؤشّرات القطاع الطبي الأخرى. لن أقول لك إن هناك مدنا طبية بنيت هنا في السنوات العشرين الماضية، وهناك نقلات نوعية، سواء في أجور الأطباء ووضعهم المادي والمعنوي وطفرات هائلة تحقّقت في التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، حتى إن أردوغان وحزبه وكبار السن عندما يحدّثونك بمقارنة بالأوضاع قبل 20 عاما، واليوم لا يستطيعون إحصاء الإنجازات الحقيقية.
وقد يلقي في وجهنا صديق يساري أو ناشط أو صحافي تقريرا عن أن مصر تتبادل مع تركيا المراكز المتدنية في حرية الصحافة، وهذا مؤشّر سيئ في الدولتين حقا، لكن دعني أخبرك أن آخر برلمان في تركيا كان الصحافيون ممثلين فيه بـ 3,7%، بينما كان الحقوقيون ممثلين بـ 21.8% فيما يمثل بالحقوقيين والصحافيين في بلداننا.
تمتلك المعارضة التركية أكثر من الثلث المعطّل في البرلمان، إذ يمتلك حزبا الشعب الجمهوري والحزب الجيد وحدهما 38% من مقاعد مجلس الأمة
عن أية ديكتاتورية مثل بعضها نتحدّث ونحن نعلم أن هذه هي المدة الأخيرة لأردوغان في الرئاسة إن فاز أصلا في ظل تقارب استطلاعات الرأي، وفي ظل تحالف قوي للمعارضة؟ بينما جرى في مصر إلغاء المكتسب الوحيد لثورة يناير (2011) عبر فتح مدد الرئاسة وتفصيل الدستور على مقاس قائد انقلاب عسكري يرى نفسه طبيبا للفلاسفة وكليما لله، ولا أحد يحاسبه فعلا لا برلمان ولا قضاء ولا أحزاب ولن يبعده عن السلطة إلا القدر.
عن أية ديكتاتورية نتحدّث والمعارضة هنا تحكم الولايات الأكبر في البلاد منذ انتخابات 2019 البلدية، إذ يحكم حزب الشعب الجمهوري وحده ومن دون تحالف مع أحد بلديات إسطنبول وأنقرة وإزمير بالإضافة إلى 18 ولاية أخرى، ويكاد يقترب من حكم غالبية السكان حكما محليا لا مركزيا، بينما لم تنعقد انتخابات محلية في مصر منذ العام 2008. كما تمتلك المعارضة أكثر من الثلث المعطل في البرلمان، إذ يمتلك حزبا الشعب الجمهوري والحزب الجيد وحدهما 38% من مقاعد مجلس الأمة التركي، أي بإمكانهما تعطيل أية قرارات تتطلّب أغلبية الثلثين، فيما يمتلك الحزب الحاكم نصف مقاعد البلديات الكبرى وأقل من نصف مقاعد مجلس الأمة، وهو مضطرّ للتحالف مع حزب الحركة القومية في تحالف الجمهور منذ 2018، وبدونه لا يستطيع الحكم، وهما معا يشكلان فقط 51,5% من مقاعد البرلمان، ولا يفوز أردوغان بالرئاسة عادة بأكثر من هذه النسبة، فيما لا يعترف عبد الفتاح السيسي بالأحزاب، ولا ينتمي لها، ويعتبر الجيش حزبه الوحيد، ويحتقر الاختلاف، ويتمنّى لو جرى دمج الأحزاب في حزب واحد.
تعلمت المعارضة التركية درسها جيدا، ووعت أن لا سبيل إلى التغيير السياسي سوى عبر صناديق الاقتراع
قد يقول بعضهم إن هذه البلديات ليست لديها الصلاحيات الكافية. وهنا سوف أشير إلى لافتةٍ كبيرة منتشرة في إسطنبول، تشير إلى أن البلدية وحدها خصّصت ما قيمته مائتي مليار ليرة تركية لدعم بند واحد فقط لبن الأطفال في العام 2022، وهي ميزانية تتخطّى قيمة دعم السلع التموينية في مصر كلها في العام نفسه، وليس لبن الأطفال وحده، كذلك فإن البلدية نفسها التي تحكمها المعارضة قدّمت بطاقات مواصلات مجانية لأكثر من 500 ألف من الأمهات اللاتي لديهن طفل أقل من أربع سنوات، إحدى البلديات الأصغر التابعة لبلدية إسطنبول، مثل بهتشلي إفلر تنشر لافتة أنها قدمت دعما ومنحا لمائة ألف طالب، بلديات أخرى تقيم مشروعات كبرى في قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات، أي أننا نتحدّث عن صلاحيات هائلة واستقلال مالي كبير في جمع وتخصيص الموارد المالية الضخمة بعيدا عن السلطة المركزية، بينما سنجد في مصر افتتاح حمّام عام إنجازا ومشروعا قوميا.
في التجربة التركية، على علّاتها المرتبطة أساسا بمزيد من استقلال القضاء وحرية الصحافة، تعلمت المعارضة درسها جيدا، ووعت أن لا سبيل إلى التغيير السياسي سوى عبر صناديق الاقتراع، فوقفت جنبا إلى جنب مع الشعب والحزب الحاكم ضد الانقلاب العسكري 2016 وأفشلته، فيما لا يزال بعضٌ ممن لا يملكون الحياء يسمّون أنفسهم قوى مدنية استعانوا بالجيش في مواجهة تيارٍ ما كان أيسر إخراجه من السلطة عبر صندوق الانتخابات، كما خرج في المغرب، وكما قد يخرج في تركيا، وذلك فقط لعمى في البصيرة وسوء التدبير السياسي. واستنادا للكراهية السياسية، ساهم هذا التيار المدعو بالمدني في تدمير مكتسبات ثورة عظيمة بلا مقابل حقيقي، ورفض الدخول في حوار مع تيار الإسلام السياسي، ثم ها هو الآن يهرول إلى تجميل حوار أشبه بحوار الطرشان مع نظام عسكري يحبس أقرباء شخص لمجرّد أنه أعلن نيته الترشّح في انتخابات الرئاسة الهزلية التي ستجري العام المقبل في ضوء قضاء وفضاء عام مؤممين تماما.
استطاع التيار المعارض في تركيا أن ينجز تحالفاً انتخابياً يضم أطيافا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار
وعلى ما يحمله هذا التيار المعارض في تركيا من خطاب يميني شعبوي في مواجهة الأجانب، وبعضه شديد التطرّف، فإنه يراعي بعضا من قيم مجتمعه، واستطاع أن ينجز تحالفا انتخابيا يضم أطيافا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويتنافس هو والتحالف الحاكم ليقدّموا خطابا مليئا بالوعود الانتخابية للشباب والفئات المهمّشة، فيما لا تزال تلك القوى المدنية المصرية متخبّطة ومنقسمة على ذاتها وغير قادرة أو راغبة في توحيد صفوفها ولو على قاعدة الدفاع الحقوقي عن عشرات آلاف من المعتقلين السياسيين، أو على قاعدة مواجهة السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام، أي أننا إزاء سياسيين فاشلين في قضايا أكثر من عادلة. وبينما تجاوزت تركيا وغيرها من البلدان الانقلابات العسكرية، ودخلت في خطاب الإنجازات في مقابل خطاب الوعود، نعيشها نحن متقلبين بين فشل العسكريين وفشل المستعينين بهم على خصومهم السياسيين.
ليست كلها ديكتاتورياتٍ مثل بعضها، وإلا علينا أن نغلق أقسام العلوم السياسية ونحرق كتب النظم السياسية، ونلعن منظّري موجات التحوّل الديمقراطي وواضعي مؤشّرات الديمقراطية فقط، كي نرضيك ونرضي رغبة الديكتاتورية العسكرية في أن تصبح أمرا معتادا ولا بديل له إلا انهيار الدولة، بدلا من أن نتعلّم كيف تتطوّر الدول ديمقراطيا وتنمويا، وتتجاوز عقبات عسكرة السياسة وتبنّي نموذجها التنموي.