مصر والميناء البحري... حصار للدور وأزمات محتملة
يمثل الرصيف البحري على ساحل غزّة متغيّرا جديدا، فرضته الحرب، وضمن وظائفه المعلنة إيصال المساعدات، خصوصاً مع تصاعد المعاناة الإنسانية، لكنه طرح دوليا، بديلاً للإغاثة من قبرص في مؤتمر باريس نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بالتشاور مع أطراف أوروبية، اتّخذت خطوات لتنفيذه، مع تبلور رؤية أميركية تطالب بضرورة تعديل مسار الحرب، بما يقلّل الضحايا من المدنيين، ويسمح بدخول المساعدات الإنسانية. وضمن هذا الإطار، يمكن رؤية الانتقادات الموجّهة إلى حكومة نتنياهو، والمتعلقة بمصالح وفرص فوز فريق بايدن الرئاسي في الانتخابات المقبلة. وأيضاً استيعاب ضغوط الانقسام في الرأي العام بشأن دعم إسرائيل، وهو متغيّر جديد، نادر الحدوث بهذه الكيفية، ويتجاوز تهديد الحزب الديمقراطي انتخابيا، ليصبح موضوعا للنقاش.
ويأتي المعبر ضمن توجّهات لدى حلفاء إسرائيل (في واشنطن وبروكسل) بأن الحرب بهذه الكيفية تؤثر سلباً عليهم. لذا؛ يحاولون إظهار دور إنساني عبر المساعدات، يستوعب رفض تداعيات الحرب. وبهذا التوجّه، ومع حتى تهديدات بإبطاء المساعدات العسكرية الغربية لإسرائيل، أو مطالبة بتغيرات حكومية (تراجع عنها بايدن) لا يعتبر الميناء البحري، الذي سيقيمه ألف جندي من القيادة الوسطى الأميركية، تخليا عن دعم أهداف تل أبيب في الحرب، بل سيساعد في إطالة أمد الحصار برّيا، والاعتماد على الميناء الذي سيستغرق شهرين لإقامته، ويتكلف 35 مليون دولار، ما يعنى استدامة وظائفه بعد انتهاء العمليات العسكرية في القطاع، وربما تأمين مصالح الأطراف الداعمة للمقترح في شرق المتوسّط.
على الجانب الإسرائيلي، وضمن استراتيجية الحصار، تصبح المساعدات سقف المطالب المسموح بها بديلاً لإنهاء الحرب حاليا، ويتصل بتقويض سلطة "حماس"، وشلّ أدوارها حتى في أعمال الإغاثة، وهو هدف معلن صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، من على بحر غزّة. اتصالا بذلك، توظّف إسرائيل الميناء أداة جذبٍ لأطراف داخل غزّة وخارجها، تتعاون معها، محاولة تكوين أجسام بديلة لـ"حماس"، وتختبر ذلك في تأمين وصول المساعدات، لكن سعي إسرائيل لم يلق استجابة، واستطاعت بعض القوى تأسيس نياتٍ ومجموعات الحماية الشعبية للتأمين، رغم اغتيالات إسرائيل لقوات الشرطة، ومحاولتها تعطيل توسّع هذه المجموعات عبر استهدافها كما جرى مساء الثلاثاء بجنوب غرب غزّة، والمرشّح للتكرار لمنع تشكّل أى أجسام تسهل إدارة المساعدات وتأمينها، ولإبقاء الفراغ قائما بما يُحدث الفوضى.
تغيّرت لهجة القاهرة نسبيا بشأن المساعدات، مع دخول الرصيف البحري طوْر الإنشاء
ويحمل الميناء البحري رسالة إلى كل الأطراف، ومنها القاهرة، أن اقتحام رفح هدفٌ ما زال قائما، وفقا لمسار العدوان من محافظات الشمال حتى خانيونس، وصولا إلى رفح التي شهدت عمليات قصف متكرّر في تمهيد يحمل تهديداً بالهجوم برّيا على المدينة التي لم تسلم بعض مناطقها من القصف جوا.
ويتضمّن الميناء وجودا عسكريا أميركيا على ساحل غزّة يعاون إسرائيل على الأقل في تنظيم المساعدات، بمشاركة الإمارات (ستكوّن تحالفا للمساعدات مع قبرص) وربما تتدخل أطراف عربية أخرى. وكانت خلال نوفمبر/ تشرين الثاني، شاركت في مؤتمر باريس بوفد وزاري، ولم تُبد اعتراضاً على فكرة المعبر البحري، لكنها فيما بعد، اشتكت بشكلٍ خافتٍ من تراكم شاحنات المساعدات في العريش، نتاج عقباتٍ يفرضها الجانب الآخر (إسرائيل) تمنع وصولها إلى قطاع غزّة، وحاولت ضمن ذلك، للتدليل وإخلاء ساحتها، استضافة ممثلين من دول ومنظمّات دولية للاطلاع على الوضع في معبر رفح.
يحمل الميناء البحري رسالة إلى كل الأطراف، ومنها القاهرة، مفادها أن اقتحام رفح هدفٌ ما زال قائماً، وفقاً لمسار العدوان من محافظات الشمال حتى خانيونس
تغيّرت لهجة القاهرة نسبيا بشأن المساعدات، مع دخول الرصيف البحري طوْر الإنشاء، سواء عبر تصريحات رسمية، أو في تقارير إعلامية موجّهة، تؤكّد أن تعطيل وصول المساعدات يرتبط بتعنّت إسرائيلي، وكاستدراك متأخّر حول الرصيف البحري. بعد ثلاثة أشهر، شهد الموضوع تجاهلا مقصودا لمصر التي رحّبت بكل جهود للإغاثة وأعلنت يوم الاثنين (18 مارس/ آذار) بشكل مقتضب أنها تدرس المقترح، مشيرة إلى أن المعبر البحري غير كافٍ لمعالجة الأزمة، وهو ذاته موقف دول عربية وأخرى من الاتحاد الأوروبي. ولكن، على حد تعبير بيانٍ لمنظمات حقوقية بينها "العفو الدولية"، لا يمكن الاختباء وراء عمليات الإنزال الجوي وجهود فتح ممرّ بحري لإشاعة وهم بأنها تفعل ما يكفي لدعم الاحتياجات في غزّة ونتاج خبراتٍ سابقة، ودروس حرب الإبادة الحالية، لا يمكن تصديق فاعلية المعبر البحري في إيصال المساعدات، أو أنه قاصرٌ على هذه المهمّة ويمكن إنجازها. وكمثال عملي، وصلت سفينة مساعدات عبر قبرص، بحمولة مائتي طن، أي ما يعادل عشر شاحنات تقريبا، كان يمكن تمريرُها من أي معبرٍ برّي، وتبحر سفينة أخرى، تستغرق أسبوعاً للوصول إلى ساحل غزّة. بينما تروّج وزارة الدفاع الأميركي لإمكانية توفير مليوني وجبة يوميا بجانب تقديم خدماتٍ طبيةٍ عبر مستشفيات مؤقتة في الميناء، يقيمها سلاح المهندسين الأميركي.
وعموماً يتماسّ الميناء البحري، سواء كان مؤقتاً أو سيتّخذ صفة الاستدامة، مع وضع مصر ودورها، وربما أزمات لاحقة ترتبط بالحرب، فمن جانبٍ تستفيد مصر من معبر رفح في إبراز دورها الإغاثي، كدولة جوار. وأيضاً في جذب أطراف أوروبية إليها بوصفها بوابة للدعم الإنساني ووسيطا للتفاوض، وينال تعطيل أو إغلاق المعبر من دون إرادتها إحدى أدوات ترسيم دورها سياسيا وإنسانيا، ويبدو أن اقتراح المعبر البحري من قبرص بعد أسبوعين من الحرب، بالتشاور مع تل أبيب، لإمداداتٍ تجاريةٍ للقطاع يكمل معبر رفح، تحوّل بديلا للمعابر البرّية. واستطاعت إسرائيل استثمارَه بعد مثولها أمام محكمة العدل الدولية، واتخذته هي وحلفاؤها عنواناً لمساعدة المدنيين، وتروّج أنها لا تستهدفهم عن قصد، وأن تعطيل المساعدات يرتبط، في جانب منه، بالقاهرة، وهو ما كرّره بايدن فيما بعد. وجاء في مرافعة تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية، كما يحول الميناء عمليات الإغاثة من كونها جهداً مشتركاً (عربيا وأمميا) إلى أنها مساع إسرائيلية وأميركية، لا تلعب فيها القاهرة دوراً إلا حسب ما ترى تل أبيب، وتسمح به ميدانياً على أرض القطاع برّاً.
وفي بحر غزّة، يفرض الرصيف المؤقت (كم ْ سيبقى؟) حتى ولو خصّص للمساعدات، وجودا عسكريا في البحر المتوسّط على الأقل لحراسة المساعدات وتأمينها، وهذا يتزامن مع التوتر في البحر الأحمر وتأثيراته عسكرياً واقتصادياً، ما يزيد الضغوط على القاهرة لأنها ستواجه بمنطقتين تمثل ساحة للتوتر، وإن كان استهداف السفن في البحر الأحمر قائماً، وتضرّرت منه مصر اقتصاديا، فهو غير مستبعدٍ تكراره في البحر المتوسط، خصوصاً مع تصاعد المواجهة مع حزب الله.
من المهم النظر إلى الميناء البحري، ضمن استراتيجية التوسّع والهيمنة الإسرائيلية، وتحقيق التفوّق العسكري والأمني
ويبدو أن دخول قبرص وأخذها دورا كبيرا نسبيا في مسألة المساعدات، يمكن أن يمتد لتكون مركزا لتجمّعات سياسية شرق أوسطية تزاحم مصر، حيث عقدت خلال 13 مارس/ آذار الحالي اجتماعاً افتراضياً بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة الإمارات واليونان حول المعبر البحري، بجانب تحضيرها لاجتماع 21 مارس بمشاركة 40 دولة، سيخصّص صندوقا للإغاثة ويطرح الدعم الفني والمالي للمساعدات، وعبر اجتماعات تنسيق، يمكن لقبرص لعب دور في دعم إسرائيل أمنيا واقتصاديا، خصوصاً مع علاقات تعاون عسكري قائمة منذ عقد، بجانب تحالفات مشتركة، منها منتدى غاز شرق المتوسط.
وربما يوظف الميناء حال اقتحام رفح ممرّا بديلا لعبور الأفراد والمساعدات، وإغلاق معبر رفح بشكل مؤقتٍ مع تحوّل المنطقة إلى مسرح عمليات عسكرية، هذا الاحتمال قائم، خصوصاً بعد مصادقة نتنياهو (الجمعة 15 مارس/ آذار) على خطّة للهجوم على رفح.
وإجمالاً من المهم النظر إلى الميناء البحري، ضمن استراتيجية التوسّع والهيمنة الإسرائيلية، وتحقيق التفوّق العسكري والأمني، وأدواتها في حرب الإبادة اليوم، من حصار وتدمير وإبادة ومحاولات دفع الفلسطينيين إلى التهجير، إضافة إلى توقيت طرح المعبر ضمن تطوّرات الحرب الجارية التي تستهدف هزيمة المقاومة، وإنهاء سلطة "حماس"، أي أن المشروع المشار إليه كمهمة طارئة أميركيا، ليس كما يروّج بهدف الإغاثة وحسب، ومختلفٌ تماماً عن تلبية مطالب الفلسطينيين، وحقوقهم في إنهاء الحصار، وحرّية التنقل والحركة، والتبادل التجاري، عبر ميناء بحري ومطارات ومعابر مفتوحة وحرّة، من دون عوائق مع دول الجوار والعالم.