عن عوائق التقارب المصري الإيراني ومحفّزاته
ضمن جولة إقليمية استغرقت أسبوعَين، شملت تسع دول في الشرق الأوسط، وصل وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي (16 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي) إلى القاهرة، والتقى نظيرة المصري بدر عبد العاطي، والرئيس عبد الفتاح السيسي. ويأتي الاجتماع التشاوري ضمن سياقات أهمّها استمرار العدوان على غزّة ولبنان، وتكرار الهجمات على سورية واليمن، في محاولة لاستباق هجوم شنته إسرائيل (فجر السبت الماضي) على إيران، حاولت إيران التجهّز له عسكرياً ودبلوماسياً، وجذب الأطراف عبر تنشيط آليات الاتصال، بما فيها اللقاءات الثنائية واجتماعات دولية وإقليمية، منها اجتماعات "بريكس" وفي الأمم المتحدة ودول جنوب القوقاز، إلى جانب نشاط سفرائها، مستهدفةً كسر الحصار، وإيضاح مواقفها، وكسب أنصار، وهي تخاطب دول المنطقة بشّأن خطورة التصعيد الذي يترك آثاره في الجميع، غير رسائل تحذير الخصوم من دعم تلّ أبيب، مع تأكيدها في الوقت نفسه تبنّي نهج يخفّض التصعيد، مطالبةً بأدوار دبلوماسية تقود إلى وقف إطلاق النار في غزّة ولبنان.
وقبل الحرب على غزّة ولبنان، استطاعت إيران تحقيق تقدّم في استراتيجية للحوار والتعاون مع بلدان المنطقة، بدعم وساطات عدّة (عمانية وعراقية وصينية)، واستعادت علاقتها مع السعودية ومجمل دول الخليج تباعاً، عدا البحرين، بينما ظلّت القاهرة على حالها من الحذر والتردّد تجاه بناء علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران، رغم الرسائل المتبادلة عن نيّة للتقارب، ولقاءات بين مسئولي البلدين في عُمان وجنيف وغامبيا ونيويورك، بجانب توجّه رئاسي ظهر في لقاء الرياض، على هامش اجتماع مشترك بين الدول العربية والإسلامية، إضافة إلى حضور مصري في تأبين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وتنصيب سلفه مسعود بزشكيان. لكن يبدو أن هذه الصيغ من التواصل تبقى في إطارٍ بروتوكولي من دون توثيقها بعلاقات دبلوماسية رسمية، ولم تدفع مشتركات (كما الحرب) إلى زيادة التنسيق بين البلدَين، رغم توجّهات إسرائيلية للهيمنة على الشرق الأوسط لا يمكن تعطيلها من دون مواقف مشتركة بين دول الإقليم، تفرض (وتمثّل) دافعاً لمراجعة القاهرة علاقاتها الدولية والإقليمية، ومنها العلاقة مع إيران، التي يمكن أن تسهّل بلورة تفاهمات عربية تجاه سياسة طهران في لبنان وسورية والعراق، تحقّق ما تدّعيه طهران من "احترام مبادئ الاستقلال والسيادة ووحدة الأراضي بالنسبة لجميع دول المنطقة"، غير الملفّ اليمني الذي يؤثّر في مصر بشكل بالغ، من ذلك تراجع عوائد قناة السويس مع استمرار حالة عدم الاستقرار في البحر الأحمر، بجانب ملفّ أمن الخليج واستقراره، الذي كان يساق ضمن كوابح الصلات بين مصر وإيران، بينما الأخيرة تحاول نفي صورتها مصدرَ خطر، وتعيد صياغة علاقتها عبر طرح التعاون الاقتصادي والأمني والدبلوماسي مع دول الخليج، التي دل على تطوّر علاقات طهران بها لقاء وزراء خارجيتها مع نظيرهم الإيراني في الدوحة أوائل الشهر الجاري (3 أكتوبر)، ولقاءات مماثلة على هامش اجتماع الدورة العامة الـ79 للأمم المتحدة، غير زيارتَين إلى الكويت والبحرين (21 - 22 أكتوبر).
ظلّت القاهرة على حذر وتردّد تجاه علاقات طبيعية مع طهران، رغم لقاءات بقيت في إطارٍ بروتوكولي من دون توثيقها علاقات دبلوماسية رسمية
وعلى مستوى أمني، شاركت قوات عُمان والسعودية وقطر مع سبع دول أخرى تطلّ على المحيط الهندي في مناورات بحرية (آيونز 2024)، إلى جانب روسيا والهند، وبها حاولت طهران دعم مفهوم "الإقليمية"، والتدليل على حسن الجوار، والأمن المشترك، وهو ما يؤتي ثماره سريعاً، يُؤشّر عليه إعلان قائد بحرية الجيش الإيراني (الثلاثاء الماضي) اقتراحاً سعودياً بتنفيذ مناورات بحرية في البحر الأحمر. ويتزامن مع ذلك تكرار طهران رسائلها وشرح رؤيتها بلسان مسؤوليها مع مختلف الأطراف، بينها رسالة وزير خارجيتها إلى نظرائه في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أن ردّها على اغتيال إسماعيل هنيّة ومهاجمة أراضيها جاء وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وتؤكّد انتهاء العملية، ورغبتها في عدم توسيع نطاق الحرب، لكنّها في الوقت نفسه أعلنت استعدادها عسكرياً لمواجهة لا تخشاها، وأن ردّها سيكون حاسماً، وكذلك أبلغت الولايات المتحدة عبر سفير سويسرا أن مشاركة أطراف ثالثة في المواجهة مع إسرائيل لا تساهم في خفض التصعيد. ونقلت الرسالة نفسها عبر سلطنة عمان، التي ساهمت من قبل في تفاوض غير مباشر مع واشنطن (كان عراقجي ضمن فريق إيران المفاوض)، وتطالب حالياً جميع الأطراف المعنية ببذل الجهود لإقرار وقف إطلاق النار في غزّة ولبنان، لأنه الأساس الذي يُؤدّي إلى إزالة "التوتّر" ويدفع إلى "التشاور"، والعمل معاً "بحثا عن الاستقرار".
وهذا التغيّر في التوجّهات الإيرانية يرتبط بواقع إيران داخلياً، ورغبتها في التهدئة، وليس منفصلاً عن صورة العلاقات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، ومرونة أطرافها، ومنها السعودية وتركيا وتوجههما الجديد نحو تقليل حدّة الاختلافات والبحث عن مشتركات. لكنّ مصر ما زالت متحفّظة تجاه ايران، رغم اللقاءات والتصريحات المتبادلة عن تطوير علاقة البلدين، كان آخرها لقاء الرئيس المصري نظيره الإيراني،على هامش اجتماعات مجموعة بريكس في قازان بروسيا، واتفق فيه الرئيسان على "أهمّية الجهود المشتركة لاستكشاف آفاق تطوير العلاقات الثنائية"، حسب ما نقلت وسائل إعلام إيرانية، لكن واضح أنّه لا أفقَ مغايراً، ولا خطوات فعلية تبذل لتطبيع العلاقات، كما يشيع بعضهم حالياً، أو ما تردّد سابقاً، وإن كان السيسي يدعو إيران إلى تصحيح مواقفها وصورتها التي ارتسمت طوال أربعين عاماً، ويبعث برسالة طمأنينة قائلاً إن القاهرة "لم تُقدم خلال السنوات التي تعرّضت فيها العلاقات الإيرانية المصرية إلى مشاكل على أيّ خطوة ضدّ مصالح الجمهورية الإسلامية".
ضمن المعوقات السياسية للعلاقات الإيرانية المصرية، علاقة القاهرة مع الولايات المتحدة ودول غربية، إضافة إلى التنافس بين قوى الشرق الأوسط
وتبدو العلاقات بين البلدين مشدودةً إلى عواملَ تاريخية وتصورات متناقضة للنظامين، وتخلق عوائق على مستويات سياسية وأمنية، وتولّدت مع حدثَين أساسيَين، معارضةُ قادة الثورة وأسلافهم في إيران اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل (1979)، وما أضافه توسّع نفوذ طهران في أربع دول عربية من مخاوفَ لدى مصر، خاصّة مع دعم سياسي وعسكري لمجموعات مسلّحة تراه القاهرة تحدّياً للأمن عربياً، يحدّ من سلطة الدولة ومفهومها في لبنان والعراق واليمن، عبر تنظيمات خارجها. وعلى مستوى سياسي داخلي، ترى قوى الثورة المضادّة في مصر إيران بعين قلقة، لأنّها رحّبت بثورة يناير (2011) واعتبرتها شبيهة بثورتها الإسلامية، ستشكل نظاماً مناهضاً لإسرائيل وواشنطن، هذا إلى جانب مخاوف وادّعاءات بأن إيران حاولت التأثير في الشأن المصري خلال الثورة عبّر حزب الله، وقبلها اتهامات بممارسة إيران أنشطةَ تخابر في مصر، كما لم ترحّب طهران بنظام 30 يونيو (2013)، ورغم ذلك، حضر حفل تنصيب السيسي (2014) رئيساً الراحل حسين أمير عبد اللهيان، حين كان نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية ووزيراً للخارجية فيما بعد.
وضمن المعوقات السياسية على مستوى إقليمي ودولى، علاقة القاهرة مع الولايات المتحدة ودول غربية، إضافة إلى التنافس بين قوى الشرق الأوسط، واختلاف المعالجات بشأن قضايا أساسية تتعلّق بقوى المقاومة في المنطقة وعلاقتها بإيران، في ظلّ التزام مصري بمعاهدة السلام، حتى مع اختراق تلّ أبيب بعض بنودها الأمنية، كما إصرارها على البقاء في محور صلاح الدين، من دون تحديد موعد للانسحاب، وما زالت القاهرة تراهن على علاقتها بواشنطن ووقف إطلاق النار حلّاً لأزمة المحور، كما أن هناك اختلافاً في معالجة ورؤية البلدين للصراع مع إسرائيل، ترى القاهرة أن هناك ضرورة إلى إعادة سلطة محمود عباس إلى غزّة، وتحاول حشد دول أوروبية حول ذلك، وموافقة إسرائيل ضمن دور الوساطة، بينما تباعد الخطى مع فصائل المقاومة، وترى فيها أزمة، ولم تعد متحمّسة تجاه ملفّ المصالحة والحوار مع (وبين) فصائل المقاومة والقوى السياسية الفلسطينية، وكان واضحاً ذلك في موقفها من حركة حماس منذ اجتياح رفح، حيث لم تصدر بيانات رسمية بعد اغتيال الشهيدَين إسماعيل هنيّة ويحي السنوار، وكلاهما كانا على علاقة بالقاهرة في فترة سابقة، بل زار وفد "حماس" القاهرة قبل السابع من أكتوبر (2023) بأيام.
ويمكن تفهّم التباعد مع إيران على الأرضية نفسها، بما في ذلك انخفاض مستوى التبادل الدبلوماسي، واقتصاره على بعثة لرعاية المصالح، وتبادل الرسائل الدبلوماسية، مع نشاط تجاري وسياحي محدود للغاية، وإن كانت القاهرة تبرّر موقفها بالاتزان الاستراتيجي، وتحفّظها على الانخراط في محاور ضمن استقطاب دولي، وأحكام أيديولوجية مسبقة، لكنّها في الوقت نفسه، تضع العلاقة مع واشنطن والسلام مع إسرائيل ضمن خياراتها الاستراتيجية، وفى الوقت الذى تتحدّث عن الانفتاح، فإنها تضيّق دوائر العلاقات الدبلوماسية، ضمن انحيازات ومفاهيم أيديولوجية، تنفيها حين تريد، متعلّلة بتحقيق التوازن، بينما الانفتاح على إيران وغيرها من قوى الشرق الأوسط يوفّر في الواقع آليات تشاور لخلق توازن حقيقي في مواجهة عدوان إسرائيل، وقد بات واضحاً أن ليست هناك حلول للخروج من المأزق المشترك عبر مواقف فردية لكلّ دولة على حدة.
رغم تباينات في المواقف بين مصر وإيران، يمكن الارتكاز على المشتركات بين البلدين، خاصّة مع مخطّطات إسرائيل التوسعية
وأخيراً، ليست العلاقة مع طهران تحمل أضراراً كما تلّ أبيب، التي تُظهِر مع كلّ صراع حقيقي عداءها للقاهرة ومجمل دول المنطقة وشعوبها، طالما لم تذعن لها، ويعتبرها الشعب المصري الخطر والمهدّد الأكبر للأمن والاستقرار، وهذا يعيد التذكير بأهمّية إعادة تقييم وتعيين العلاقات الإقليمية والدولية، وبناء تحالفات جديدة ليست بالضرورة بديلاً من صلات قائمة، لكنّها أداة تسمح بقدر من الاستقلالية أكبر، وتوفّر خيارات متعدّدة للحركة، خاصّة مع انخراط مصر في تجمّعات كما "بريكس"، تحاول خلق نموذج تعاون على مستوى اقتصادي وسياسي متعدّد الأطراف، لا تسيطر عليه واشنطن.
وإجمالاً، ورغم تباينات في المواقف بين مصر وإيران، يمكن الارتكاز على المشتركات بين البلدين، خاصّة مع مخطّطات إسرائيل التوسعية، وتربصّ بالقاهرة طوال عام مضى، وإن كان فتح باب للحوار مع تركيا لتقليص ملفاتّ الخلاف وإيجاد فرص للتعاون الاقتصادي يمكّن من اتخاذ الموقف نفسه مع ايران، انطلاقاً من رؤية استراتيجية تتحسّب لسيناريوهات مستقبلية، وأخرى لم تكن متوقّعة، مع التركيز في مصالح وأهداف مستديمة وطويلة الأجل مع مجمل بلدان المنطقة، حول ملفّات محلّ اتفاق، وفرص تعاون (منها ملفّ الطاقة والتبادل التجاري)، إضافة إلى علاقات سياسية يمكن أن تدعم الوساطة المصرية بمّا يُعزّز الدور الإقليمي لمصر، لا ينتقص منها كما يتصوّر بعضهم خوفاً أو تبريراً.