مصر تختار أبطالها وتضيق بالمزيّفين
عرضت مصمّمة الغرافيك غادة والي مشروعها عن هوية مصر البصرية، قبل أربع سنوات، ضمن المؤتمر الوطني السادس للشباب، ثم تكشّف لاحقا أن المشروع الذي لاقى اهتماما رسميا، وترحيبا ودعاية موسّعة، كان في الأصل مشروعا جماعيا لطلاب الجامعة الألمانية. وقد استخدمت وإلي، قبل عام، رسوم فنان روسي في تنفيذ مشروع تجميل مترو الأنفاق، ذلك بعد رحلة امتلكت فيها من الحظوة المقترنة بالقرب من مؤسّسات السلطة، ما يجعلها تتحدّث باسم المرأة والشباب المصريين، وتنفذ فيما بعد، بالتعاون مع هيئات حكومية، مشروعاتٍ ترعاها مؤسّسات دولية، ترفع شعارات الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة وتمكين المرأة.
لم تنته القصة بعد، وليست وحسب مجرّد اتهام بالسطو على أعمال للغير أو المتاجرة بالشعارات، فشبكات مجموعات المصالح متشابكة، تتضمّن نخبا شبابية صنيعة السلطة، تتبنّاها دوائر الإعلام، وأحيانا مؤسّسات المجتمع المدني، تُفتح لها النوافذ، من دائرة التسويق السياسي إلى عالم المال، وكلاهما متصل. أخيرا، عاود الفنان الروسي اتهام مصمّمة الغرافيك المولعة بالأصالة بسرقة أحد أعماله، واستخدامه في عمل ترويجي لمنتج شركة دولية. استهدف التصميم محلّ الخلاف ربط المنتج بالبيئة المحلية للمستهلكين، وهو التيمة ذاتها التي تستخدم في مشروعات التسويق السياسي. ربط الجمهور بالنظام السياسي عبر أدوار لنخب تبادل النظام التساند وتقدّم مسوّغات الشراكة، وفروض الطاعة، شكلاً من الزبونية يتضمّن إبراز شباب السلطة في مواجهة شباب الثورة، أو الدفع بقياداتٍ نقابيةٍ صفراء في مواجهة الحركات العمّالية، وفرض الوصاية بكل ما أمكن على النقابات المهنية، حتى ولو بأعمال العنف والبلطجة، كما مشهد فضّ اجتماع الجمعية العمومية لنقابة المهندسين. كان الهدف وما زال استبعاد كل الفاعلين من حيازة مساحات المجال العام، وحجز كل مصادر القوة للسلطة وملء المجال العام بنماذج مصنوعة ومنضبطة قابلة للتحكّم، بما في ذلك استجلاب بعض الوجوه المعارضة إلى كنف السلطة، ومغازلة تطلّعات شخصية لدى بعضهم، هذا غير إيجاد كيانات موازية، تصبح مراكز قوة تساند النظام السياسي..
تكشف الواقعة، وما أثارته من نقاش وغضب واسع امتدّ على صفحات التواصل الاجتماعي وحجب عن الإعلام الرسمي إلا فيما ندر، عن غضب كتل شبابية من صناعة أبطال من ورق، يُفرضون على المجتمع بالخداع، ورغم ضحالة أفكارهم يتّصفون بالابداع والابتكار، والنزاهة والوطنية. يسمّونهم الأصليين مرّة، وحماة الوطن ومستقبله في رواية أخرى. حسب سرديّتهم، يتصدّون للمؤامرات التي تتعرّض لها البلاد، وبينها سرقة هويتها، وتراجع دورها، لكن هؤلاء لا ينظرون إلى اسباب هذا التراجع، وأنه جزء من نتائج السياسات العامة، لا اعتراف ولا مراجعة، فقط تكرار تبرير الإخفاق أو ادّعاء المؤامرة.
تخليق النماذج والأبطال المزيّفين عبر الدعاية منتج سلطوي لن يدوم
حين ظهرت مصمّمة الغرافيك لتدافع عن نفسها في برنامج تلفزيوني، زادت الطين بلّة بما أظهرته من نقصٍ في المعرفة، وعدم إدراك للأزمة، لكنها، وبإصرار تستقيه من تعالي من يحوز السلطة، تبنّت خطاب المؤامرة، ادّعت أن شكوى الفنان الروسي الذي أقام دعوى قضائية في أميركا ليستردّ حقوقه ليست استهدافا شخصيا لها وإنما لمصر. بل قال محاميها إن هناك حملة منظمّة ضدّها بسبب موقف عائلتها المناهض للإخوان المسلمين. تنتمي السردية إلى خطاب المؤامرة، المُكمل لخطابات الصراع على أساس الهوية، وكلاهما استخدمته السلطة، وبدأ منذ الأشهر الأولى لثورة يناير، بهدف تقسيم قوى الثورة وأبعادها عن أهدافها، وتحويل الصراع، كما شهدنا بعدها، إلى صراع بين إسلامين وعلمانيين، لا ثورة شعبٍ ضد سلطة، ومطالب بالحرية وسبل العيش الكريم.
لم تعد خطابات المؤامرة اليوم مصدّقة، ولا رفع شعارات الهوية تجارة رائجة، لكنها مطلوبة للتوظيف السياسي، وإعادة إنتاج الصراعات وتقسيم قوى المجتمع، وتزييف الوعي، كما تستهدف فى جانب منها إبعاد النقاش في المجال العام عن القضايا الأساسية. جرى ذلك في جلسات الحوار الوطني، الذي طرحت خلاله، ضمن عشرات الموضوعات، مسألة الهوية، بما تحتويه من سؤال من نحن، وكيف نحافظ على هويتنا من الضياع، غير التباكي على قوّة مصر الناعمة التي تنفرط، أو سرقة التاريخ أو ضعف الدور، وغير ذلك من شعور بالشوفينية يتعلق بواقع الأزمة، لكنه ليس إجابة على أسبابها، كما لن تحسمه مشروعات الهوية البصرية لغادة والي وأمثالها، ولا المتحمّسين للنقاش بشأن الهوية، وتمثيل مكوّنات المجتمع والتنوع الذي يمثل ثراء للشخصية المصرية، شرط توفر الديمقراطية، بما فيها إدارة صراع الأفكار بشكل سلمي، لا فرض مشاريع وهمية.
غير أن تخليق النماذج والأبطال المزيّفين عبر الدعاية منتج سلطوي لن يدوم، حيث يتكشّف الزيف مع وقع الأزمات، ولا تخفيها الدعاية، ولا تخفّف من وقعها الوعود بالصبر، كما لا تنفع في جبْر الضرر عمليات التبرير، وما بدأ بالسطو والخديعة ينتهي بالانكشاف، حتى وإن استمرّ فترة.
لا إمكانية اليوم لصنع أبطال من ورق، أو ادّعاء البطولة. ومع الأزمات تُدرك الحقائق، والجمهور، محلّ الصراع، يختار مع من يتعاطف
لا إمكانية اليوم لصنع أبطال من ورق، أو ادّعاء البطولة. ومع الأزمات تُدرك الحقائق، والجمهور، محلّ الصراع، يختار مع من يتعاطف، حتى لو جرت شيطنة الآخر بشعارات الوطنية المدّعاة. تستطيع مشاهدة قدر التعاطف والتفهم الواسع في مصر في واقعة لاعب المصارعة أحمد بغدودة (مواليد2001) الذي ترك المنتخب بحثا عن فرص حياة أفضل، والمساهمة في إعالة أسرته، وهو تجسيدٌ للبحث عن خلاص، وهو هدفٌ يسعى إليه ملايين الشباب العربي هربا من بلادٍ لا تمنحهم فرص للحياة. لكن نُخبا تتغنّى بالوطنية في القاهرة استنكرت اختيار بغدودة الانعتاق من واقع مؤلم، ومحاولته لعب دور في إعالة أسرته رقيقة الحال. نظرت تلك النخب إلى الشاب العشريني باستنكار، بينما النخب نفسها يعلمون أبناءهم في جامعات أجنبية، وتلد نساء هذه الطبقة، في دول أوروبية أو في أميركا، للخلاص من أعباء المنطقة ككل، وهم يدركون أن البلد الذي يتغنون به موطئ مؤقّت، أما أبناؤهم فمستقبلهم هناك في عواصم أخرى، بجنسياتٍ أجنبية، بحكم المولد وبشكل قصدي، في الوقت نفسه، يستنكرون الحلّ الفردي لبغدودة وغيره، وهم يمارسون الاختيار نفسه لأبنائهم، كما يحاربون الحلول الجماعية للأزمة، وأي تعبير سياسي ينال من البنية السياسية التي يعتاشون عليها. شكر بغدودة المتعاطفين معه من الجمهور، وقال للسلطة، التى وجهت له نداءً رسميا بالعودة ووعودا بتبنى موهبته الرياضية وحل ما واجهه من مشكلات: "هناك أبطال آخرون يحتاجون اهتمامكم".
إجمالا، يختار المصريون أبطالهم، ومع من يتعاطفون. يمكن أن ترى ذلك ضمن حالة فخر عربي بالمجنّد المصري محمد صلاح (مواليد 2001 أيضا) الذي طارد ثلاثة جنود إسرائيليين، وقاتلهم بشجاعة وبسالة النبلاء، وهو يمتلك صدقا وبصيرة لا تحتاج ترديد شعارات عن الوطنية والهوية والتاريخ، ولا ينتظر من سلوكه إقحام مصطلحات كبرى، ولا المتاجرة بها، ولا ينتظر حتى عائدا شخصيا. حمل الكلاشنكوف ومضى محمّلا بالواجب ومدفوعا بالشجاعة، كما أغلب أبطال ثورة يناير وشهدائها الذين عاشوا في أحياء شعبية بسيطة، وهم جزء من روح مصر الممنوعة من التعبير عن نفسها، هؤلاء ضمن الأبطال، يستحقّون التحية والإجلال، ولم تكن الوطنية لديهم أدوات كسبٍ أو تعبئة سياسية لحيازة القوة والنفوذ بالخداع. إنه التنوّع والثراء الذي تعرفه مصر وروحها الحقيقية التي تحافظ على المكانة والكرامة، ولا تخصم منها.