مصر بين تناقضات الحوار الوطني ورسائل السلطة

22 يونيو 2023
+ الخط -

اتّسعت عمليات الضبط الذي مارسته السلطة في مصر، عشر سنوات مضت، من الفعل إلى التعبير، ومن الفضاء السياسي إلى الاجتماعي، ذلك عبر أدوات القسر والقهر، وبنية التشريع التي ركّزت على المنع والحظر والعقوبات، هذا بجانب استخدام وسائل الإعلام، للتوجيه والإقناع، ومن أجل حيازة القبول والرضى، وشرعنة النظام. جرى ذلك كله، من أجل تحقيق الاستقرار السياسي، والذي بُني على ثنائية القمع والدعاية حول الإنجازات وإنكار الإخفاقات. وضمن عمليات الضبط، عمّم الخوف، وحضرت أساليب المراقبة، وامتدّت من النسق السياسي إلى النسق الاجتماعي، بما في ذلك الفاعليات والاحتفالات الاجتماعية، والحفلات الفنية أحيانا، وحتى الجنائز إذا ما ارتبطت بالسياسة أو شخصيات عامة.
ورغم ما تحقّق من استقرار عبر تقييد المجتمع حدّ السكون، ما زالت تتردّد سردية أن الدولة في حالة خطر، في خلط بين الدولة والنظام، ومعها تبرير آليات الضبط، بغرض القبول والاقتناع بها، تزامن ذلك مع جلسات الحوار الوطني، والتي كان بعضُها أقرب إلى الفضفضة وجلسات استماع واستعراض واستجداء أحيانا، ما يحيلها إلى شكلٍ بلا مضمون وفاعلية. وعلى الرغم من ذلك، يراهن عليها بعضهم في إحداث إصلاحات، تحقيق مكاسب، وتفكّك بعض جوانب الأزمة، خصوصا المتعلقة بالحرّيات والتمثيل السياسي، بينما تهدف السلطة إلى توسيع قاعدة المؤيدين لها، وجذب أصواتٍ إصلاحيةٍ إلى جانبها، وهي تستعد لجولةٍ جديدة من الحكم عبر الانتخابات الرئاسية المقبلة.

تناقضٌ يرتبط بهدف المشاركين الجادين في الحوار، والذين يهدفون إلى إحداث إصلاحات وحيازة مكاسب، بينما هدف السلطة أن يدعم المشاركون في الحوار سياساتها

يطرح الحوار الوطني حاليا، كما طرحت سابقا فكرة الحوار مع الشباب، حين استشعرت السلطة أزمة في التواصل معهم، فدشّنت مؤتمرات تجمع فئاتٍ مختارةً منهم، بهدف الاستمالة، وأيضا إنتاج نخبٍ شبابية جديدة يتم تدريبها وتأهيلها، وتبدو وكأنها كوادر سياسية، تمتلك المعرفة ومهارات الخطابة، بينما لا يخرج أداؤها عن دور مسرحي بلا حبكة، وفي أحيان كثيرة يكون مبتذلا، ولم يكن مؤتمر الشباب الذي انعقد أخيرا في الإسكندرية بعيدا عن هذا النموذج، لكن الجديد أنه دمج الحوار مع الشباب بالحوار الوطني، وكانت رسائل السلطة خلاله أكثر تحديدا ووضوحا، بشأن المسار السياسي والأزمة الاقتصادية.
وخلال الحوار الوطني، وفي ظل أزمةٍ عنوانها الرئيسي الاقتصاد، يعاني المشاركون فيه من عدّة تناقضات أساسية، ترتبط أساسا بتوجّهات أطراف السلطة وتصوّراتها السياسية، واستقرارها على أن ما جرى عبر عشر سنوات من الحكم، يعدّ إنجازا لم يحدث من قبل، أي عدم الاعتراف بالأزمة وأسبابها. وبجانب هذه التصوّرات، هناك تناقضٌ يرتبط بهدف المشاركين الجادين في الحوار، والذين يهدفون إلى إحداث إصلاحات وحيازة مكاسب، بينما هدف السلطة أن يدعم المشاركون في الحوار سياساتها وخطواتها، وأخيرا استدامتها في الحكم بالطريقة ذاتها، بما في ذلك حالة الضبط السياسي.

تطرح السلطة أنها كانت مجبرةً على وضع قيود صارمة، وتقيد الحريات، بما في ذلك إجراءات وتشريعات زادت عدد السجناء

وفي وقتٍ تتصاعد فيه المطالب بتخفيف القيود التي فرضت وحاصرت قوى المجتمع، تطرح السلطة أنها كانت مجبرةً على وضع قيود صارمة، وتقيد الحريات، بما في ذلك إجراءات وتشريعات زادت عدد السجناء، أي كان القمع ضروريا وحلّا وحيدا لإنقاذ الدولة والمجتمع من الانهيار، وأيضا شرطا للبناء الذي يتطلّب الاستقرار، هذا الخطاب الذي يتكرّر، يعتبر كل السجناء متورّطين في أعمال عنف وإرهابيين، في مخالفةٍ لواقع الحال، أن هناك مواطنين قيّدت حريتهم بسبب التعبير عن آرائهم، وأحيانا شكوى عابرة، وإذ لم يكن السجناء في التفسير الأول إرهابيين، فإن المجاهرة برأي يخالف توجّه السلطة، سواء بشكل منظم كتيار فكري وسياسي أو على مستوى الأفراد، تعدّ تهمة في حد ذاتها، وهذا تناقضٌ مع فكرة الحوار، والتي تجري بين مختلفين حول توجهاتٍ وسياساتٍ، تنفذها بطبيعة الحال السلطة، كما يصوّر الخطاب أن الحقّ في التعبير خطر يهدد الدولة والمجتمع، أي نفي للمعارضة أصلا، ونفي للسياسة، وهو تناقضٌ مع فكرة الحوار، والتي تعني وجود أصواتٍ متعدّدة، وأن السياسة كبديهة مجالٌ للاختلاف والتنوّع في الآراء والتوجهات والمواقف، والمصالح طبقيا وسياسيا. أما فكرة التحليق فوق الاختلاف والطبقات فغير ممكنة، كما أن الدعوة إلى الحوار والاقتناع بجدواه وإمكانية الإصلاح في ظل تجريم الحق في التعبير أو تقييده لا ينتظر منه نتائج حقيقية ومؤثرة.
وبين تناقضات الحوار، أيضا، أن الدعوة إليه تمّت منذ عام، وبدأت جلساته منذ شهر، لكن حالة حصار الفاعلين السياسيين ومعاداة الحق في التنظيم ما زالت قائمة، أي ما زالت السلطة عند موقفها المتوجّس من الآخر، وتمارس حالة الحصار ذاتها على المجال العام، وتطرح مسألة الاستيعاب المحدود والمختار لأفرادٍ لا توجهات، أي أقل من الشراكة أو عقد صفقة، فضلا عن رفضها وجود بدائل في الشخوص والسياسات من خارج مجموعاتها الحاكمة. وفي كل الأحوال، يبقى التلويح بالعقاب لكن من خارجها، وبثّ الخوف بأن الحريات باب للفوضى. وبهذه الكيفية، كانت هناك إشارات تحذيرية للمشاركين في الحوار، فجانب الخطوط الحمراء المتعلقة بالأمن القومي والقضايا الخارجية والدستور، هناك إشاراتٌ بألا يرتفع سقف الطموحات والمطالب، خصوصا في قضايا الحريات. يأتي هذا التخوف مع تأكيد النظام على شرعيّته وقوته وإنجازاته، بينما يضيق بالنقاش بشأن قواعد الضبط، ويرفض أن تُتاح مساحات التعبير من دون حصار، ويرى الاختلاف مصدرا للخطر.

ترسل خطابات السلطة، وأصوات إعلامية تمثلها، إشارات تحذير، أن تنفيذ بعض المطالب غير ممكن، وأن قبضة السلطة لن ترتخي

وبين التناقضات أيضا، إدانة ثورة يناير، واعتبارها ومن شاركوا فيها، يتحمّلون المسؤولية عن الأزمة الحالية، وهذا يحمل ملمحين أساسين: عدم اعتراف السلطة بدورها ومسؤوليتها عن الأزمة، رغم استدامة الحكم عشر سنوات. وأن على المتحاورين معها أن يحلوا الأزمة وكأنهم كانوا في السلطة، ويضيق بمطالب بعض المشاركين في الحوار، بشأن بحث سبل بالإفراج عن سجناء الرأي، بجانب مطالب بتعديل قوانين زادت عدد السجناء وكبّلت وسائل التعبير.
وترسل خطابات السلطة، وأصوات إعلامية تمثلها، إشارات تحذير، توضح أن تنفيذ بعض المطالب غير ممكن، وأن قبضة السلطة لن ترتخي، وليس حجب موقعين أخيرا، السلطة الرابعة ومصر 360، وبقاء مئات المواقع الإلكترونية قيد الحجب، سوى تأكيد أن خطوات تفكّك أزمة الحريات، حتى ولو كانت محدودة، ما زالت مستبعدة أو قيد التفاوض، كما رفع حجب المواقع. هذا بجانب استدامة أزمة السجناء، ومحدودية عدد المفرَج عنهم من السجناء، أو المحتجزين قيد السجن الاحتياطي، وتجديد الحبس في قضايا الرأي، تبدو أن الرسائل واضحة، سقف المطالب لا بد من أن ينخفض، بداية جلسات الحوار وحتى ولو في أزمة مركّبة وقبل الانتخابات الرئاسية، لا تعني تقديم خطوات وازنة في قضية الحريات، أو أن الوضع تغيّر، ووصل إلى حد التفاوض الجاد بين طرفين. هذا بجانب أن آليات الضبط السياسي ستبقى كما هي، بوصفها ضرورة. وبذلك لا مساحة لفاعلين خارج السلطة، وليس للمتحاورين الحقّ في طرح مطالب تغير أو تطور أدوات الحكم القائمة على آليات الضبط التي مورست قبل عشر سنوات، هل فوجئ المشاركون في الحوار؟

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".